كرد سورية وتوجهاتهم الإقليمية…ضياع البوصلة
} أمجد إسماعيل الآغا
كثيرة هي المعادلات السياسية التي تعصف بمنطقة الشرق الأوسط، خاصة تلك المتعلقة بالحدث السوري، والذي أرخى بظلال تأثيراته على المستويين الإقليمي والدولي. نتيجة لذلك، فقد بات واضحاً أنّ التعقيدات المفتعلة والتي تأتي في سياق الحرب على سورية، ترمي بمجملها إلى إنشاء اصطفافات جلها يأتي في إطار البحث عن مواقع قوة، والبناء لاحقاً على مفاعيلها لصوغ معادلات جديدة، خلافاً لتلك التي سادت عقب بداية الحرب على سورية. فالكرد وتوجهاتهم باتوا رأس حربة ضمن سياق المعادلات المعقدة، فمن جهة هم حلفاء غير استراتيجيين لواشنطن، لكنهم أداة عسكرية يُراد منها إحداث شرخ في بنية المعادلات التي تؤطر شمال شرق سورية، ومن جهة أخرى هم هاجس تركي، يبني عليه صانع القرار السياسي والعسكري في أنقرة، جلّ سياساته في سورية. بين هذا وذاك، يمكننا وصف الكرد بأنهم جزء من معادلة جيواستراتيجية، بوجه أميركي وظهير تركي. وبالتالي وبصرف النظر عن هواجس النظام التركي حيال الكرد، واحتواء أميركي لهذه الهواجس، وعطفاً على تفاهمات أميركية تركية، ومثلها روسية تركية. يبدو أنّ الكرد قد ذهبوا بعيداً في توجهاتهم الإقليمية، وباتت بوصلتهم تتجه نحو الخيارات العميقة سياسياً، لإنشاء مظلة تقيهم خطورة الانسحاب الأميركي من سورية، المهدّد في ماهيته لتوجهاتهم، والمخلب التركي المتربّص بهم، وتكون أيضاً بوابة للولوج في أيّ تفاهمات قادمة مع دمشق.
ولعلّ جزئية التفاهمات السورية الكردية التي جاءت عقب قرار الانسحاب الأميركي، ذي الالغام السياسية، جاءت في توقيت سياسي ناظم لتحوّلات عسكرية، إلا أنّ انتشار الجيش السوري شمال شرق سورية، وضعهم في منظور الخيارات الاستراتيجية السورية بعيدة المدى، وباتوا أمام معادلة جديدة، تفترض وتلزم التنسيق عسكرياً مع الدولة السورية وجيشها. ورغم ذلك، تبقى توجهاتهم السياسية تشوبها الكثير من المغالطات والإشكاليات، لا سيما علاقتهم مع واشنطن، ومؤخراً بحثهم عن طرق توصلهم إلى إعداء تركيا الإقليمين.
فقد أثارت زيارة القائد العسكري لقوات سورية الديمقراطية، مظلوم كوباني إلى العاصمة الإماراتية أبو ظبي، موجة من الاحتجاجات والغضب لدى المسؤولين السياسيين الأتراك. ووفقاً لبعض وسائل الإعلام التركية، فلقد وصل لاهور شيخ جنكي، ابن شقيق جلال طالباني ومظلوم كوباني قائد قوات مكافحة الجماعات الإرهابية في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، إلى محافظة الحسكة في 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، وبعد ذلك قامت مجموعة من قوات مكافحة الإرهاب التابعة لـ “لاهور”، بالدخول إلى المنطقة، وفي الـ 28 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، قام مظلوم كوباني بزيارة مفاجئة إلى مدينة السليمانية وبعد قضاء يوم واحد في مدينة السليمانية، غادر قائد قوات سورية الديمقراطية من مطار بغداد الدولي إلى العاصمة الإماراتية أبو ظبي، ولفتت وسائل الإعلام التركية إلى أنّ كوباني عاد إلى العاصمة العراقية بغداد بعد قضاء أربعة أيام في الإمارات، وأكدت وسائل الإعلام التركية أنّ كوباني التقى خلال زيارته هذه بعدد من المسؤولين السعوديين والإماراتيين. ولقد أثارت هذه الزيارة غضب العديد من القادة الاتراك. يذكر أنّ قائدين عسكريين آخرين ينتميان إلى قوات سورية الديمقراطية الكردية، وهما الهام أحمد ورياض دارار، كانا قد سافرا في وقت سابق إلى القاهرة والتقيا خلال زيارتهما تلك مع وزير الخارجية المصري سامح شكري.
في هذا الإطار، يبدو واضحاً أن الكرد يحاولون هندسة أوضاع جديدة، تثمر تعاوناً كردياً عربياً، يكون في ماهيته سداً للتوجهات التركية ضدهم، وفي جانب آخر، يبدو أنّ واشنطن قد أعطتهم الضوء الأخضر للشروع الفعلي بهندسة معادلة إقليمية، تكون سبباً في إطالة أمد الحرب على سورية، وإحداث المزيد من التعقيدات في طريق الحلّ السياسي. فبعد قيام تركيا بعملية “نبع السلام” في منطقة شرقي الفرات، أصبح الكرد العدو الأول والأهم لأنقرة في تلك المنطقة، نتيجة لذلك، وعطفاً على التوجهات الكردية لجهة بناء تفاهمات كردية عربية، فإنّ أنقرة تشعر بقلق عميق إزاء أيّ تعاون وتنسيق لأيّ جهة فاعلة في المنطقة مع قوات سورية الديمقراطية.
حول هذا السياق، ذكرت العديد من التقارير بأنّ الحكومة التركية تقلق من شيئين رئيسيين؛ أحدهما التعاون والدعم العربي للكرد، والذي قد يساعدهم على تعزيز موقفهم وسلطتهم في تلك المنطقة، والشيء الآخر هي الدولة السورية وإنجازاتها السياسية والعسكرية.
الجدير بالذكر أنّ أنقرة ترى بأن زيادة مستوى التعاون والدعم الذي تقدّمه بعض الدول ذات النفوذ الإقليمي الكبير مثل السعودية والإمارات على المستوى الدولي لهذه الجماعات الكردية، يمكن أن يفتح الباب أمام جماعات الضغط الدولية الكبيرة لتقديم الدعم الكافي للكرد، بغية فرض عقوبات اقتصادية جديدة على تركيا.
الكرد وعطفاً على جملة المتغيّرات التي فرضتها الدولة السورية على مسارات الحرب المفروضة عليها، هم أحوج ما يكونون إلى حوار وتقارب مع دمشق، خاصة أنها الطرف الأقوى سياسياً وميدانياً، وذلك نتيجة العديد من المعطيات والتي من الممكن أن نجملها في قضايا ثلاث:
أولاً: بالنظر إلى مناطق سيطرة الأكراد التي تحتوي شرائح متعددة، فقد برزت في الآونة الأخيرة تحركات احتجاجية ناجمة عن طريقة تعاطي الكرد مع بقية الشرائح، وبالتالي بات لزاماً عليهم أن يتعاطوا بإيجابيةٍ أكثر مع مختلف المكونات في مناطق سيطرتهم، وتغيير مسارهم عبر التوجه إلى دمشق لوضع خارطة طريق تضمن لكلّ المكونات الحصول على الخدمات الاجتماعية والادارية.
ثانياً: من الملاحظ أنه لا يوجد تجاوب دولي مع قضية فيدرالية الكرد، وحتى الأميركي الحليف الأبرز لهم لا يريد الضغط سياسياً تجاه هذه القضية، لكن واشنطن وعبر مراوغتها السياسية تريد فقط أن تستخدم هذه الورقة للضغط على الدولة السورية وروسيا، بالتالي بات يدرك الكرد بأنهم ورقة ضغط بيد الأميركي، ومن المؤكد بأنه سيتمّ التخلي عنهم عاجلا أم أجلا ضمن التسويات الكبرى.
ثالثاً: إنّ المتابع لتطورات الشأن السوري، بات يدرك بأنّ الكرد فقدوا الثقة بحليفهم الأميركي، خاصة أنّ واشنطن خذلتهم أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، فكيف اليوم بعد الإنجازات الاستراتيجية التي تحققها الدولة السورية في السياسة كما في الميدان، بالإضافة إلى أنّ الرغبة الدولية بالعودة إلى دمشق باتت واضحة، وبالتالي لا بدّ من انعطافة نحو الدولة السورية، فهي القادرة على ضمان حقوقهم وآمنهم، في ظلّ تجاذبات وتعقيدات لن تكون إطلاقاً في صالح الكرد إذا ما استمروا في اتباع سياسية البحث أوراق قوة، لاستخدامها على أيّ طاولة مفاوضات.
في المحصلة، وضمن جزئيات التطورات المتسارعة، على الكرد أن يدركوا أنّ مصير القوات الأميركية والتركية لن يبقى رهناً بسياسات ترامب وأردوغان، بل سيكون مصير هذه القوات رهناً بيد الدولة السورية وجيشها، وبالتالي على الكرد التفكير بعقلانية والابتعاد عن الأميركي، ليبقوا ضمن المعادلة السورية، هذه المعادلة التي فرضتها إرادة الانتصار السوري، ولا بدّ للكرد من تعميق تحالفهم مع دمشق، من أجل إحباط أيّ مخطط أميركي أو تركي يهدّد الوجود الكردي في سورية.