أزمة لبنان في خدمة التوظيف الخارجي!
} د. وفيق إبراهيم
إفقارُ اللبنانيين ناتجٌ من معادلة سياسية تجمع تاريخياً بين دور القناصل المعبرين دائماً عن انصياع السياسات اللبنانية للقوى الإقليمية والدولية والمصارف الممثلة لسيطرة الرساميل على وجهة السياسات والطوائف التي تمنع اللبنانيين من الاندماج بوسيلتين: الفروقات التي أكد عليها دستور البلاد بالإضافة الى أدوات لتحشيد المذهبية والطائفية.
هذه تركيبة بدأت مع تأسيس لبنان برعاية المستعمر الفرنسي في 1943 وتطورت مع الاضطرابات الإقليمية التي أدت الى فرار رؤوس الأموال العراقية والسورية الى مصارف بيروت ومشاركتها في الاقتصاد اللبناني الريعي.
فظهرت «طفرة» ازدهار تبين أنها سطحية وليست بنيوية استفاد منها اللبنانيون، لكن معدلات هجرة الشباب اللبناني للعمل في الخارج ظلت مرتفعة وكأن في أعماق اللبنانيين شعوراً بعدم الارتياح لذلك الاستقرار المشبوه.
فإذا كانت الأوضاع دائماً على هذا النحو، فلماذا ينهار لبنان اليوم، ولم تسقط قبل عقود عدة طالما أن المعطيات الاقتصادية واحدة؟
الإجابة كامنة في ثنايا السياسة الخارجية. لقد شكل لبنان واحة استقرار لشرق مضطرب حكمته الانقلابات السياسية الإقليمية التي كان الخاسرون فيها يفرون الى لبنان ومعهم أصحاب رساميل وموالون، ما جعل من بلاد الأرز مكلفة لمصلحة الخارج بإدارة نوعين من العلاقات مع الناجحين في الانقلابات العسكرية العربية مع الخاسرين فيها أيضاً لأنهم لجأوا الى لبنان. وهذا ان الدوران هما لخدمة الأميركيين بشكل خاص على اختلاف مظاهرها وشعاراتها.
لقد أدت هذه السياسات الى القضاء على المقاومة الفلسطينية وأدوار الاحزاب الوطنية والنقابات وحاولت إعادة إنتاج لبنان القديم المزدهر شكلاً عبر إعادة إنتاج معادلة القناصل، إنما بشكل أقوى من المراحل السابقة. فالرئيس السابق رشيد كرامي كان يجسد رمزياً ركن الطوائف من المعادلة مع علاقة رمزية بمصر، لكنه لم يرتبط بالمصارف. وكذلك صائب سلام وعبدالله اليافي حتى أن نجيب ميقاتي جسد الأركان الثلاثة للمعادلة، إنما بدفع ضعيف لإيمانه بالمصارف أكثر من الركيزتين الثانيتين.
إن إعادة انتاج الدور الأميركي في لبنان من خلال التأثير السعودي – الخليجي على لبنان، جاء رداً على صعود دور حزب الله في الداخل اللبناني واستتباعاً في الإقليم.
وتبين ان المقاس المطلوب للمرحلة الجديدة هو المرحوم رفيق الحريري المتوضع في العباءة السعودية ببعد أميركي – فرنسي مجسداً «المصارف» أكثر من أي رئيس وزراء سبقه الى هذا الموقع واستطاع في مدة قصيرة جداً من الاستفادة من إعادة توظيف الفتنة السنية – الشيعية في الإقليم، لإنتاج تحشيد مذهبي غير مسبوق حوله، جرى دعمه بأسلوب الإكراميات ونثر الدولارات والخطاب الديني العلني من مختلف مراكز الكهنوت.
لقد أوحى الرئيس الحريري للبنانيين أنه الأمل باستعادة الدور الاقتصادي المتدهور مركباً سياسات اقتصادية ومالية، كانت توهم اللبنانيين باقتراب موعد «النمو» المرتقب، لكنها لم تكن بالحقيقة أكثر من ديون بفوائد مرتفعة جداً خدعت المتابعين، واحدة من إبداعات المدرسة الاقتصادية الحريرية ان المصارف كانت تجمع ودائع اللبنانيين بفوائد بين الستة والسبعة في المئة وتعيد تسليفها للدولة على شكل سندات خزينة بإثنين واربعين بالمئة، يكفي أن 36 مليار دولار اختفت من شركة كهرباء لبنان، وليس في لبنان كهرباء وسقطت البلاد في ديون داخلية وخارجية فاقت المئة مليار دولار وسطت على 150 ملياراً أخرى من التفاعلات الاقتصادية غير الرسمية.
إن جميع المتعاقبين على رئاسة الحكومة بعد الحريري الأب، نفذوا سياساته الاقتصادية وهي الغلو في الدين لخداع الناس وفرض صورة وهمية عن ازدهار خيالي.
إلا أن ما كشف هذه السياسات هو ارتفاع حدة الصراع الإقليمي وتراجع السياسات الأميركية – الخليجية مع صعود دور حزب الله اللبناني والإقليمي وهو دور حمى سورية ولبنان ناثراً روحاً معنوية في العراق واليمن مع معدلات من الدعم الملموس.
هناك اذاً عناصر عدة فرضت على الأميركيين السعي الى استحضار أدوار جديدة للبنان يمارسون من خلالها التأثير على جواره. فالانقلابات العسكرية انتهت لمصلحة ثبات الأنظمة وانتصار الدولة السورية يكاد يكتمل.
حتى أن العراق يتجه لطرد الأميركيين من ربوعه واليمن يصمد على الرغم من تواضع إمكاناته.
اما ايران فتنتقل من الدفاع الى الهجوم وهي المحاصرة منذ أربعين عاماً.
هذا ما شجع الأميركيين على تكليف «لبنانهم» بمهام جديدة تنحصر في ثلاث نقاط:
محاصرة الدولة السورية.
عرقلة حزب الله.
السيطرة على الغاز اللبناني.
يبدو أن إيجاد موطأ قدم للشركات الأميركية في آبار الغاز ليست صعبة، انما في المناطق التي لم تأخذ حقوق التنقيب فيها شركات فرنسية وروسية وايطالية.
كما أن عرقلة حزب الله اصبحت صعبة جداً، لقوته الشعبية في لبنان وسلاحه ذي القوة الإقليمية وتحالفاته الداخلية والخارجية.
إلا ان هذه المعطيات لم تمنع الأميركيين من تأسيس عقوبات سرية ضخمة على لبنان تمنع تحويل معظم إسهامات المغتربين وتقلص التبادل معه عبر الشركات والمصارف الدولية ما أدى الى تقليص كبير في كميات الدولار الموجودة في السوق اللبنانية، وتوقفت إمكانية الاستدانة اللبنانية التقليدية من الخارج والداخل، فانكشف الوضع اللبناني الاقتصادي بشكل حقيقي وزالت تلك الغشاوة الحريرية الرقيقة التي كانت تموه على الكارثة الاقتصادية.
بذلك اصبح لبنان مكشوفاً ضعيفاً تستوطنه ازمة سياسية معقدة وسط غياب خارجي كان يرعى في السابق الحلول وأصبح يتعمد تجاهلها لتتأزم أكثر.
ما هو السبب؟
اعترف سياسيون واقتصاديون أميركيون أن بلادهم تستعمل الازمة اللبنانية للمزيد من خنق سورية. باعتبار ان السوق السورية الداخلية كانت تؤمن جزءاً من احتياجاتها بالدولار من لبنان. كذلك كانت تستورد وتورد سلعاً عبر الحدود اللبنانية والدليل أن خنق لبنان ادى الى ارتفاع سعر الدولار الى ألف ليرة سورية مقابل 450 ليرة قبل شهرين فقط ويراهن الأميركيون ايضاً على إقفال كامل للحدود السورية مع العراق للمزيد من خنق الدولة السورية، فهل ينجح الأميركيون؟ يقول خبراء إن روسيا والصين لن تسمحا بنجاح الخطة الأميركية بتفجير سورية اقتصادياً بعد عجز الأميركيين والخليج وتركيا والأردن والإرهاب من إسقاطها عسكرياً.
بقي على لبنان أن يرفض هذا الدور لأن فشله لا يعني الا القطع الكامل للعلاقات السورية اللبنانية وتركيز دمشق على علاقات روسية – صينية عبر سواحلها وبالتعاون مع العراق وإيران.
فهل يستفيق السياسيون اللبنانيون ويمنعون مشروع تدمير آخر مقوّمات بلادهم؟ الإجابة عن هذا السؤال مرجأة لمرحلة ما بعد تشكيل الحكومة الجديدة.