الغاز يرسم خرائط المنطقة ونحن تائهون
ناصر قنديل
– تبدو كل صراعات المنطقة تدور في بلدان ليس بينها مَن يعيش في ظروف اقتصادية واجتماعية يُحسد عليها، ومثلها لا تبدو السلطات السياسية في أغلب الدول والكيانات المحيطة بنا موضع رضى شعبي أو تحظى بالمشروعية التي تتيح لها الاسترخاء أمام أي انفجار تسببه أزمات حقيقية وراسخة أو مفتعلة وعابرة، فإيران التي تعرف أزمة مالية خانقة مقابل تماسك نظامها السياسي والالتفاف الشعبي حوله الذي تفجّر في جنازة القائد قاسم سليماني بصورة مدهشة، لا تستطيع تجاهل الاحتجاجات التي خرجت بعد سقوط الطائرة الأوكرانية ولا التي سبقتها على خلفية زيادة أسعار المحروقات، وعلى ضفة العداء التام لإيران يقف كيان الاحتلال الذي يعيش شللاً سياسياً مع الاستعداد لانتخابات مبكرة للمرة الثالثة بعد عجز يستمر لعام كامل عن تشكيل حكومة جديدة، ويتسع الحديث فيه عن زيادة أرقام البطالة وتراجع النمو وزيادة عجز الموازنة. وتتحدث تقارير صندوق النقد الدولي عن الحاجة الملحة لجملة إصلاحات تقترح في طليعتها الخصخصة، وفي تركيا كما في مصر تدهور في سعر صرف العملة وقلق متبادل بين الحكومتين من السياسات الإقليمية والأدوار في المنطقة لكل منهما تجاه الأخرى، لكن فيهما تسليم بوجود حراك سياسي داخلي مناهض للحكم لا يمكن تجاهله. والباقي من العراق إلى الأردن وفلسطين في أوضاع تزداد سوءاً وتأزماً سياسياً واقتصادياً. هذا عدا ما يجري في السودان والجزائر سياسياً واجتماعياً وما تعانيه تونس اقتصادياً واجتماعيا ولا يبعد كثيراً عن السياسة وتجاذباتها، فيما سورية تواصل مواجهة الحرب المفتوحة عليها منذ عشر سنوات وفوقها الحصار المالي والاقتصادي والأزمات السياسية والمعيشية.
– لبنان في حالته الراهنة ليس كائناً فريداً في المنطقة، لكن لا أحد كلبنان يعيش حالة التيه والضياع والتغافل الاستراتيجي تجاه القضايا التي ترسم خرائط المنطقة الجديدة، وتحدّد تحالفاتها وخياراتها، بغض النظر عن صحة أو عدم صحة هذه الخيارات، لكنها ترسم بوجودها صورة قيادة تتحمل مسؤوليتها في قراءة اللحظة التاريخية، إيران التي تعيش الحصار والملاحقة والتهديد تشكل ركناً ثالثاً في حلف دولي مع كل من الصين وروسيا لإعادة ترتيب وضع آسيا، وتدق بيد غليظة على أبواب مركز صنع القرار الدولي كقوة إقليمية عظمى، و”إسرائيل” الضائعة سياسياً لا تنسى المبادرة لقيادة حلف للنفط والغاز يتوّج ببناء مشروع لضخ الغاز نحو أوروبا، تشاركها فيه اليونان وقبرص وإيطاليا، بينما مصر تنضم مع الأردن وفلسطين إلى منتدى شرق المتوسط مع “إسرائيل” وحلفائها في الأنبوب، فيما يذهب العراق لخيارات كبرى بحجم العزم على إخراج القوات الأميركية، بالتوازي مع معاهدة اقتصادية استراتيجية مع الصين، وتركيا العضو في حلف الناتو تدير ظهرها للحلف وتتوجه صوب روسيا لملاقاة خرائط الغاز الجديدة فتتمدد نحو ليبيا، وتشكل رأس جسر للدور الروسي في الساحل الشمالي لأفريقيا، وتشكل شريكاً في أنبوب السيل الجنوبي لروسيا لنقل الغاز الروسي نحو أوروبا، وسورية المتعبة ليست غائبة أبداً عن هذا المشهد الاستراتيجي الجديد، فحلفها السياسي العسكري مع روسيا وإيران يصير حلفاً اقتصادياً ويمتد في النفط والغاز، فيفرض على تركيا التموضع خارج حسابات العبث بالداخل السوري، ويجعل الغاز السوري عضواً طبيعياً في النادي الذي تقوده موسكو ويضمّ أنقرة، ويبحث عن نصيب في ليبيا.
– يتخيّل اللبنانيون أن الحديث عن هذه الخرائط ترف، وأن الأولوية هي لحسم ملفاتهم الراهنة سواء كانوا من دعاة التغيير الجذري للنظام السياسي والاقتصادي، أو من أهل النظام القلقين من تحول الأزمات إلى انهيار مالي وانفجار اجتماعي وفوضى سياسية وأمنية، لكن الحقيقة التي يجهلونها ويتجاهلونها هي أن الخرائط الجديدة لا ترحم ولا تنتظر، ولبنان دولة منتجة للنفط والغاز، وبعض مما يشهده من ضغوط مالية ومن توظيف للحراك الاجتماعي الناتج عن هذه الأوضاع المالية، إن لم يكن مصمماً لتوظيفه في خدمة فرض خيارات ظالمة وقاسية على لبنان في الربع الأخير من الساعة الذي يسبق ترسيم الخرائط النهائية، فهو بكل الأحوال قابل لمثل هذا التوظيف، ليبدو الترف أو السذاجة، في افتراض معالجات للمشاكل الراهنة واستلحاق وقت مناسب لمناقشة الخيارات المرتبطة بهذه الخرائط، ولبنان وكل متابع فيه يعلم، أن ثمة حلفاً للغاز تقوده “إسرائيل” وآخر تقوده روسيا في المنطقة، وان على لبنان الانضمام إلى أحدهما وأن المعارك السياسية والإعلامية الدائرة والتي تتجاهل هذا الاستحقاق في الظاهر تهدف لخدمة الضغط على لبنان للانضمام إلى أحد هذين الحلفين رغماً عنه وضد مصلحته الحقيقية. ومعلوم أن المعني ليس الحلف الذي تقوده روسيا، وأن ورقة ديفيد ساترفيلد لترسيم حدودنا البحرية بما يرضي “إسرائيل” تنتظر من يوقعها في لبنان، كما قال لنا كل من جيفري فيلتمان وديفيد شينكر، فيما كانا يتحدثان عن الأزمة المالية والحراك الشعبي والحكومة اللبنانية.