الفنان محمد حرب التيناوي… قامة فنيّة بصمت في عقول السورييّن إبداعاً وتميّزاً
في الماضي القريب لم يكن يخلو بيت أو دكان في دمشق القديمة أو الريف السوري من لوحة للفنان محمد حرب التيناوي المعروف بأبي صبحي. فهذا الرائد الفني امتاز بنزعته الفطرية مجسّداً عبرها المئات من أبطال الملاحم والسير الذين قرأ عنهم الناس وسمعوا بهم بأسلوب محلي محض ومبتكر.
ويعرض الباحث غسان كلاس، مسيرة هذا الفنان، مبيّناً أنه ولد في بيت دمشقي في زقاق الحطاب في باب الجابية عام 1884، حيث جذب انتباهه وهو لا يزال طفلاً أقواس البيت الجميلة وأعمدته وزخارفه وعندما بلغ العاشرة تلقى أول دروسه في الرسم من والده الذي كان يمتلك دكاناً لبيع الأدوات المنزلية في سوق الدرويشية ويمارس هواية الرسم الشعبي للوحات تاركاً لمحمد الصغير تلوينها وملء فراغاتها بالألوان الترابية.
ويشير كلاس إلى تأثر التيناوي البالغ بالثقافة الشعبية التي استمدّ معظمها من خلال متابعته قصص الحكواتي وما تبثه من قيم وشجاعة وتركت انطباعاً كبيراً في نفسه انعكس على أعماله ورسومه ولوحاته ولا سيما قصة عنترة بن شداد التي شكّلت موضوعاً أثيراً لديه.
وعندما آنس أبو صبحي في نفسه القدرة افتتح لنفسه بحسب كلاس دكاناً في باب الجابية بدأ عبرها رحلة الرسم على الورق والكرتون الأسمر ثم انتقل منه للرسم على القماش وانتهى بالرسم على الزجاج بطرق شتى، ومن هناك ذاعت شهرته في أرجاء العالم وأصبحت لوحاته محط أنظار متتبعي الفن ودكانه محجاً للسياح في دمشق.
ويؤكد كلاس تأثر كثير من الفنانين المحليين والعرب بفنّ أبي صبحي التيناوي فضلاً عن أبنائه وأحفاده. وكان من أشهر الفنانين السوريين الذين راقتهم أعماله وتأثر بلوحاته الفنان برهان كركوتلي الذي عايشه منذ طفولته إضافة إلى الفنان الياس زيات.
ويلفت كلاس إلى أن لوحات أبي صبحي لم تنتشر في دمشق ببيوتها ومقاهيها فحسب، بل حجزت لنفسها مكاناً في متاحف عالمية كاللوفر في باريس الذي اقتنى عملين له ما يدلل على رقي نوع الرسم والمواضيع والطريقة التي كان يستخدمها في تنفيذ أعماله الفنية.
ويلفت كلاس إلى أنه رغم أن التيناوي لم يتعلم الرسم في المدارس ولم يملك ناصية فنه من خلال العمل الأكاديمي إلا أن لوحاته امتلكت حسّاً مرهفاً ودقيقاً واستلهمت التراث الشعبي الذي مثل وجدان الأمة بكل أبعاده وخصوصياته، حيث كانت شخصيات رسومه تتمتع بكثير من المواصفات التي كانت تخضع لمزاجه الشخصي مقدماً عبر لوحاته ما اختزنته ذاكرته من قصص وأساطير شعبية بطريقة بدائية تقليدية دون أن يعرف أن هناك تأثيرات فنية أوروبية حديثة غزت العالم وأثرت بالفنانين الذين تلقفوها وأخذوا عنها.
ويبين كلاس أن تركيز أبي صبحي التيناوي في لوحاته كان على الشخصيات الدينية والتاريخية عبر العصور كأبي زيد الهلالي والزير سالم والظاهر بيبرس كما كان للثوار السوريين الذين وقفوا بوجه الاحتلال الفرنسي نصيب في لوحاته فجسّدهم بشكل رائع من خلال رسمهم بثياب شامية محضة، كما صور لنا محمل الحج في أكثر من لوحة، مبيناً فيه الزخارف والكتابات التي كانت تسطر عليه.
ولم تخل لوحات التيناوي من بعض الاهتمام بالطبيعة فرسم مشاهد للغوطة وأخرى لنهر بردى وبعض البساتين والبيوت الدمشقية القديمة مزيناً معظم لوحاته بالخضرة والأزهار والياسمين وأنواع الزهور.
ويختتم كلاس أن أهمية التيناوي جعلت فنه موضوعاً مقرّراً في مادة الفنون الشعبية التي تدرس في ماجستير التراث الشعبي المحدّث مؤخراً في قسم الاجتماع بجامعة دمشق لما قدمته لوحاته من بساطة وعفوية وصدق، فكان فناناً شعبياً له جوه الخاص وأسلوبه المنفرد ونكهته الدمشقية العتيقة.