العراق يتصدّى لمقصلة الجيوبوليتيك الأميركي
} د. وفيق إبراهيم
يستعمل الأميركيون كامل إمكاناتهم للجم اندفاعة العراقيين نحو استكمال سيادتهم الوطنية، وهذا لا يكون إلا بسحب القوات الأميركية من أراضيهم.
لذلك يذهبون الى تحشيد آلياتهم العراقية والخليجية والتركية، في أعنف ادوار تضعُ العراقيين بين خيارين وكلاهما مسمومٌ وقاتل، فإما ان يقبل العراقيون ببقاء المستعمر الأميركي في بلادهم او ان يرضخوا لتقسيم بلادهم الى اقاليم ثلاثة تشبه في الصلاحيات المسنودة اليها، الاقاليم الكونفدرالية الواسعة الصلاحيات الى حدود قدرتها على عقد معاهدات مع دول أجنبية.
هناك اذاً عرض قوة مزدوج يظهر على شكل إصرار حكومي عراقي على سحب القوات الأميركية مدعوم بالدعوة الى تظاهرة مليونية داعمة، دعا زعيم «سائرون» السيد مقتدى الصدر اليها، وأهميتها ان الداعي اليها كان منذ شهر تقريباً يعمل على إسقاط حكومة عادل عبد المهدي مُشكلاً معارضة داخلية تؤيد الانتفاضة الطبقية في العراق، وكان الأميركيون يراهنون عليها للمزيد من اضعاف التيارات التي تعمل لاستقلال العراق.
هذا من دون وجود أي علاقة مباشرة للصدر مع الأميركيين.
بالمقابل يرفع البرزاني حاكم كردستان العراقية، صوته عالياً بتأييد بقاء الأميركيين في العراق عموماً وكردستان خصوصاً، وإلا فإن اقليمه لن يقبل بأي «وضعيات مستقلة أخرى». ويقصد هنا وبوضوح رفضه العودة الى السيادة العراقية الفعلية، وكيف يرجع اليها، وهو الذي يستفيد من علاقاته بالأميركيين والأتراك لمراكمة ثروة تزيد عن ثلاثين مليار دولار بينها مئة وستون شركة اقتصادية متنوّعة في تركيا وحدها، بما يعني ان مصلحته ومصلحة عائلته هي في الدعم الأميركي الذي يسمح لهم بالسيطرة على كردستان لآجال طويلة، كما ان الدعم التركي يبيح لهم سرقة النفط العراقي وبيعه للأتراك واستثمار عائداته في الاقتصاد التركي والأميركي لصالح آل البرازاني، وهم بالمقابل يؤيدون الاحتلال الأميركي للعراق والاحتلال التركي لقسم من جبال سنجار العراقية ايضاً متعهدين بشكل إضافي بعدم الانغماس بتأييد تشكيل دول مستقلة للأكراد مع تركيا.
كردستان اذاً اقليم يتقاسم النفوذ فيه الأميركيون والاتراك الذين يسطون على إمكاناته الاقتصادية مع آل البرازاني على حساب معادلتين: السيادة العراقية وأكراد الإقليم. للاشارة فقط، فإن اقليم كردستان لا تنطبق عليه شروط الدولة القادرة على العيش لأنه يفتقد الى الحدود المفتوحة براً وبحراً وجواً، فلا يقع على ساحل بحري ولن تسمح له بالمرور لا إيران ولا تركيا وسورية ولا العراق الداخلي، لذلك فإنه مجرد آلية مؤقتة للاستعمال الى حين استنفاد ما يريده الأميركيون منه، وعندها يتخلون عنه كما فعلوا مع عشرات النماذج المشابهة في مختلف أنحاء العالم في اوقات سابقة.
هذا الأمر يسري أيضاً على إقليم الوسط الذي يطالب رئيس المجلس النيابي العراقي الحلبوسي بتشكيله، لأنه يمثل على حد قوله مصالح السنة العراقيين.
والمعروف أن منطقة الوسط، تمتد من الحدود السعودية عند منطقة الأنبار الى حدود كردستان عبر بغداد، وتحاذي الحدود السورية، ومن هنا تنبع اهميتها، كما ان معظم أحزابها السياسية وبعض عشائرها مرتبطة بالإمارات والسعودية وتركيا تمويلاً وبالتالي سياسياً.
وللتذكير فقط، فإن هذه المناطق الوسطية هي المنبع التاريخي للفكر القومي في العراق.
فكيف ينحدر من المشروع القومي الى فكر على مستوى جزء من العراق وله وظيفة وحيدة وهي خدمة الاستعمار الأميركي في ارض السواد، والانصياع للوهابية السعودية والإمارات؟
وهذا يفسر مدى استحواذ الأميركيين على مصادر قوة في العراق تتعلق بالاتجاهات التقسيمية للقوى السياسية الأساسية في كردستان والوسط، الى جانب عشرات القواعد الأميركية المنتشرة في ارض الرافدين والدعم السياسي والتمويلي للخليج.
لجهة الجنوب مع بعض الاتجاهات الوطنية في الوسط فهناك سعي حثيث لطرد الأميركيين مع تطوّر ميول لبناء عراق غير منصاع لقوى إقليمية ودولية من مختلف الاتجاهات.
لذلك فهناك إعادة نظر تتجه للولاء لعراق موحد يتساوى فيه أبناؤه في السياسة والاقتصاد والاجتماع لإعادة إنعاش الانتماء الوطني.
إن هذا التيار يعتبر أن الأميركيين والخليج وتركيا يتكاملون في تحقيق خيبة أمل عراقية تمنع أرض الرافدين من بناء معادلة تحالفية مع سورية، تلعب دور نظام عربي قوى يحول دون التراجع العربي الكامل، كما تستطيع هذه المعادلة تحقيق حلف يمتد الى إيران، فروسيا ما يؤسس للمزيد من تراجع الأحادية القطبية الأميركية وضبط الانحدار الخليجي قبل استسلامه الكامل للعدو الإسرائيلي.
بذلك تنكشف الخطوط القاسية للقتال بين العراق الوطني وبين المستعمر الأميركي وأعوانه المحليين والإقليميين وهو قتال ضارٍ لن يوفر الأميركيين فيه أي سلاح سياسي او قتالي قابل للاستخدام نظراً لارتباط هذه المعركة بوضعيتهم في الشرق الأوسط، وبالتالي بأحاديّتهم المتزعزعة على المستوى الدولي.
يجب الانتباه هنا الى أن التهديد الأميركي بفرض عقوبات على العراق إذا استمرت حكومته بالمطالبة بانسحاب الأميركيين لن يجدي نفعاً، لأن بغداد قادرة على إيجاد بدائل بدأتها مع الصين بمعاهدات تبادل للسلع مقابل النفط، وتستكملها مع روسيا وقد تجد في علاقة متوازنة مع إيران سبيلاً لإجهاض العقوبات الأميركية على البلدين بالتعاون التكاملي الاقتصادي، فهل ينجح العراق في طرد الأميركيين؟
إن قسماً من هذه الإجابة مرهون بوحدته الداخلية وتنسيقه مع سورية وبناء علاقات عميقة مع روسيا والصين وإيــران، وربما بعـــض الدول الأوروبية التي قد تجد قريباً أن مصالحها موجودة بالتـــحرر النســـبي من الهيمنة الأميركية ومقصلة الجيوبوليتيك الخاص بها.