ثقافة وفنون

هل وُفِّق الشّاعر أمين الذّيب في ومضاته؟

} د. باسل بديع الزين*

يُعدّ الحديث عن تلازم المسارين الإبداعي والنقدي في الأدب الوجيز حديثًا مشروعًا ذلك أنّه يجد مردّه في اقتران ميدان النظر بالعمل والتدبّر بالتعبير والتقصّي بالإنجاز. بهذا المعنى، يغدو من المحال رصد الإمكانية التجاوزية التي تنطوي عليها الومضات من دون الركون إلى المداميك التنظيرية التي رفدت مجراها وحكمت بنيانها تساوقًا لا انعزالًا وتولّدًا لا استتباعًا. ويبدو من المفيد الوقوع على المندرجات النظرية التي رام منظرو شعر الومضة تحقيقها في الومضة الشعرية وأعني تحديدًا: الإيحاءالبُعد التّخيليّ التشاركيّطاقة المفردة (21 كلمة) – الاتساع الداخلي للغةالإيقاع الداخليالرؤياالدائرة المتشظيّة.

وعليه، سنحاول، انطلاقًا من المعايير الوجيزة السالفة الذكر، مقاربة ثلاث ومضات للشاعر أمين الذيب لمعرفة مدى تساوق عمله الإبداعي مع المبادئ التنظيرية التي طرحها مع مجموعة من العاملين في حقل الأدب الوجيز.

الومضة الأولى:

الضفة الأخرى

عكّازة النهر

موطأ قدمٍ لماءٍ كسيحٍ

الماء امرأة مبعثرة

يبلغ عدد كلمات هذه الومضة إحدى عشرة كلمة، وهو أمر ينسجم انسجامًا تامًا مع الدعوة إلى حصر عدد كلمات الومضة بين ثلاث كلمات وإحدى وعشرين كلمة. بتعبير آخر، جاءت الومضة المذكورة لتراعي شرط الإيجاز. لكن هل راعت الشروط الأخرى التي لا مناص من توافرها كي تكتمل مشهدية الومضة؟

إيقاعيًا، تنطوي الومضة السالفة الذكر على إيقاع داخليّ كثيف قوامه حسن التجاور اللفظي المتمثّل بنظرنا في صيغة التأنيث التي رفدت مجرى تعبيره فضلًا عن تنوين الكسر الذي طبع انكسار الماء في الصورة المفترضة: ماء كسيح مقرونًا بتنوين الكسر، والماء في ماهيته جريان وتدفق بيد أنّ الرؤيا التي راودت الشاعر عن مكنوناتها جعلته يرى إلى الماء في مشهديته المستترة وغايته المنشودة فعلًا كسيحًا استتبع بدوره تنوين الكسر ليغدو جريان اللفظ جريانًا بطيئًا يكسر نمطية الاعتقاد بحركية الإيقاع الداخلي. من هنا، يُمكن أن نفهم البعد التخيلي التشاركي المتأسس على طاقة المفردة أي قدرة هذا البعد على إثارة الدهشة والتساؤل في آنٍ معًا: كيف يُمكن للماء أن يكون كسيحًا؟ وأي منطق علائقي يربطه بالضفة الأخرى؟ وبتعبير آخر، كيف يُمكن للنهر الجارف أن يستحيل ماؤه عجزًا؟ الواقع أنّ الرؤيا لا تتّضح إلا بربط المدخل بالقفلة: الضفة الأخرىالمرأة.

هذه الثنائية اللامرئيّة نسق يحكم ومضات الشاعر أمين الذيب بعامة والومضة التي نحن بصدد قراءتها بخاصة. الضفة الأخرى هي كسر لنمطية التعاطي مع الماء على أنّه جريان طلق، الضفة الأخرى بلوغ عصيّ وزاوية مختلفة للرؤيا إذ لم يعُد للماء حضوره البديهيّ المعتاد، لقد استنفد هذا البعد الجرياني طاقته وبات مبتذلًا وبات من الضروري العبور إلى ضفة مستترة تفعل فعلها بصمت وتعي منظومتها باقتدار. كيف لا وهذه الضفة تسند النهر في جريانه على اعتبار أنّها تشكّل عكازه. ففي مراعاة النظير هذه، إشارة واضحة إلى ضرورة فهم المسكوت عنه ودوره في بلورة المعطى تمامًا كما يجري البعد التمثيليّ التشبيهيّ في جعل الماء امرأةً مبعثرة.

فالفضّ هنا فضّ مزدوج أي رفض للصورة النمطية المعطاة للمرأة بقدر ما هو رفض لهيكلية الصورة التقليدية في التعاطي مع الظاهرات والانكفاء عن الإبصار والتوليد في كشف ما انحجب. بهذا المعنى، تغدو الضفة الأخرى أي البعد الآخر المنشود هو الخلاص من الركود والصنميّة وما استخدام نعت مبعثرة إلا دعوة إلى إعادة تنضيد الذائقة الشعريّة من خلال إعمال منظورات جديدة في التعاطي مع الشعر والمرأة والحياة والمصير.

عند هذا الحدّ تستقيم الدائرة المتشظية فهي لم تنطوِ على إغلاق بل تركت مجال الرؤيا مفتوحًا وإمكانية التخيّل متاحة.

الومضة الثانية:

الرصيف المقابل يعجّ بالظلام

كيف سأعبر

لا مصابيح ترشدني للمعنى المقتول

يسكن الهم التجديديّ منازل القول الشعري في ومضات الشاعر أمين الذيب. دائمًا هناك ضفة أخرى يجب أن نبلغها. التجاوز هم وجوديّ للشاعر وانهمام عميق. والإيقاع في هذه الومضة متأتٍ من جدليّة الظلمة/الضوء الإحياء/القتل.

أما المفارقة الهائلة التي كشفت عنها هذه الومضة فتكمن في الثنائية التفارقية الضمنية ونعني تحديدًا الدائرة الصغرى، حيث لم تعُد الحاجة إلى المصابيح كافية، إذ ما نفع الإبصار إذا كان الظلام يلف الكون والمصير والمعنى؟ وبتعبير أوضح، يرى الشاعر أنّ الإبصار المنشود يحتاج إلى رؤيا أكثر من حاجته إلى مصابيح أو إلى أضواء يتيمة وهجينة.

لهذه الغاية، لا بدّ من عبور جديد بالتمام، لا بدّ من إعادة إحياء المعنى المقتول بفعل الاجترار والانخراط في السائد وإعادة إنتاج الذات لذاتها بالكيفية المعطاة نفسها.

الومضة الثالثة:

الماضي حاضر مستتر

كيف أقنع شجرة التفاح أنّ غدًا

ستمطر رذاذًا

وأنّ امرأة اشتهاها بيكاسو

تنتظرني لأرسم أحلامها

نلتمس في هذه الومضة دعوة إلى ابتكار زمن أدبي جديد من دون إحداث قطيعة تامة مع الماضي. فالماضي يحضر في حاضرنا وإن بصورة مستترة، وذلكم ما يمثّل تأكيدًا على القطيعة المتصلة التي يدعو إليها الشاعر، فنحن كذوات شعرية لا ننفصل عن الماضي إلا بمقدار ما نجاوزه ونحن لا نجاوزه إلا بمقدار ما نقف على مندرجاته ونعي هناته ونستوعب أزماته.

والقطيعة بهذا المعنى لا تعني إهمال المواضيع التي تطرّق إليها الشعراء وإنما تعني إعادة ابتكارها وفق زمن أدبي جديد ومنظور شعري مختلف. لهذه الغاية يغدو رسم امرأة بيكاسو اليوم أمرًا متاحًا انطلاقًا من كيفيات النظر المتجدّد وسبل التعبير الناهض وآليات الكشف المغايرة التي فات القدماء التنبّه إليها إما لقصور في آليتهم وإما لعجزهم عن الإتيان بزمن أدبي جديد.

وبعبارة أوضح، الأحلام مشروع مستمرّ لا يعرف التوقف وتحنيط الأحلام وتأطيرها يعني الإتيان على كلّ صور الإبداع والاعتراف بالجمود حقيقة نهائية؛ وهذا ما لا يستقيم مع النهضة المرجوة شعريًا واجتماعيًا وإنسانيًا وحضاريًا.

تستحق هذه الومضات وقفة أطول وأعمق، فقد شكلت في إيقاعاتها وتنويعاتها ومضامينها وإدهاشها وطاقات مفرداتها وبعدها التخيلي التشاركي وإيجازها وتكثيفها نموذجًا حقيقيًا للومضة الشعرية المنشودة بما تنطوي عليه من سبل القول التجديدي والتجاوزي.

 

*عضو ملتقى الأدب الوجيز.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى