نداء الشوك الأخير في دفاتر «نزار» والمدن النساء!
} طلال مرتضى*
الذاهبون إلى دهشة الضوء ضاعوا من غير دراية انكساراً عند سدرة منتهى الحلم الخلّبي، مثل البلاد التي ضلّت جهات صوابها ووزّعت عطر روحها من دون حساب لتبقى وحيدة تستجدي رفيف الذكرى كي يحرّك في مسام لهفها الماء. وحدهم من كسبوا رهان الحكاية، هم من ركبوا موجة أناهم من دون أن يرفّ لهم ضرع الحليب قيد أنملة، لعلّهم كانوا على صواب في شوط ما من مباراة الربح والخسارة والتي كانوا يعتقدونها صائبة ولم يدركوا للحظة أن في قصة الحرب وحدها الكلّ خاسر..
خاسر… خاسر تلك المفردة اللعينة هي القشة التي عبر على متنها المارقون قبل أن يكسروا ظهر خيبة البلاد!
أمس، وقفت أمام مرآة حقيقتي، تلمّست الشيب الذي غزا خريطة هروبي والتي رسمتني ولم أرسمها بإرادتي. عاينت عن كثب كيف تسللتْ وبتوَخٍّ إلى ملقى جبيني تلك الخطوط التي تشبه خطوط عرض كرة الأرض. وقتها جررتُ زفيراً غائراً منذ ألف هزيمة من بئر جوفي ونفثته في وجه المرآة كي يعمي عني تفاصيل خيبة صورتي فيها.
تلك الأخاديد التي ارتسمت وبدت كأنها ملاذ للهاربين من سطوة الخبز الذي صار معادله الرصاص زمن الحرب المتحولة، تبرأت من سنين عمري الذي تفلّت بدوره هو الآخر ضائعاً على طرقات الشوق والحنين وهو يـــدوّن القصائد التي تغنت بلهج البلاد وغواية المدن النـــساء قبل أن يفتك بَين الفقر في عذريتها التي صارت مشاعاً.
لم توار الغمامة التي دلقتها وجه المرآة جملة الأسئلة الغائبة في دفتر حسابي والذي عاث به عث فقدان الأمل. كان عليَّ مواجهتي لمرة واحدة، نعم مرة واحدة فقط عَلَّ ناتج ما حصل يودي بإتخام قريحتي الخاوية إلا من جملة الوجع والخسارات والأسئلة.
أما وعدتني يا طلال حين تصل مدن النور الساطعة بأنّك عن عشق المدن النساء تتوبُ، ما لي أراك كلما ذُكرتْ «قدسك وبيروتك ودمشقك» تذوب؟
ها أنت الآن تجوب عرض الفكرة وتطلق عنان بنات أفكارك الحرائر على مدّ المدى المجدي لشوارع البهجة، حيث تكتظّ فصول السنة كلها في يوم واحد غالباً ما يكون عكر المزاج، لا لشيء إنما لكي تفكّ لك القصيدة الحرون خيوط رغبتها الجامحة، هي تعرف أن غـــوايتك تكمن غبن حواس قصيدة لا يستـــطيع سواك تحرير معناها قبل دخول مغزاها شبهة التأويل من دون مواراة..
هكذا تُكتب قصائد المغترب، ترمي بظلال حريق أصابعها على صقيع عزلة شاعرها، تتمطّى على متن روحه كغزالة دهشة ترتـــع في سهوب الخيال لتأخذه وعشقه الوبيل نحو ضـــفة نسيان الروابي والتي شبّ على خبزها العتيق قبل ألف عطر وحرب. كان عليَّ مواجهتي لأنني بت على يقين الانزلاق في مغبة الحضارة الجديدة ووميض اللهفة الكامن لعشيقاتي من المدن النساء بدأ منسوب رهجته يخفت رويداً.. رويداً…
يا الله… كيف لي سلخ فروة شوقي عن حواسي فأنا لم أعد أحتمل نار الفراق التي لا تنفك عن كي مهجة روحي؟! من ذا الذي يحمل نعش خيبتي الكبرى حين تدور بي دائرة الهراء نحو زوبعتها الأخيرة؟!
من ذا الذي يهدهد وجع قصائدي التي غصّ بها مخطوط «باب الشوك» حدّ الاختناق؟!
من ذا الذي سيدلّه على طريق مطبعة الأمنيات علّه يلد من لدنها ديواناً يعيد للمدن التي تاهت سواء السبيل حضور معناها ومغزاها! يا الله… لماذا ربطت حبل سر تلك المدن الغاوية على أوتاد لهفة مشانق الشعراء ولماذا رميت حبل قاربها على متن رحيلهم نحو جهات الجنون؟
ما كان على «نزار» الذي علمنا سطوة الحليب ويناعة التوت أن يغادر قبل أن يرسم حول مدينة فتنته دمشق سوراً من ذهب لا يشبه حتى سورها العتيق كي لا تطالها أصابع العاذلين وقت اشتداد صهيل الوله في المسام الظامئة. يا نزار.. يا نزار لقد ترمّلت القصائد اللاهبة بعد أن شرّعت عمداً أبواب الغيابات.
ها هم ركاب اللحمة لا اللهفة يتلذّذون في كشف عورة معشوقتك ومعبودتي، حفروا سُرَّة حريقها بحثاً عما يلمع بعد أن زينّتها لهم ورسمتها قمراً منيراً يأخذ ومض معناه من انعكاس خيوط ذهب الشمس السائرة نحو شرق الحكايات..
يا نزار.. قد طمي خطب نهر الغيرة في رأسي حتى غاصت ركب ندامتي حد موتي بعد انكسار لغة الكلام. صارت القصائد من بعدك تحيض وتطمث وكلما أزهر ياسمين أنوثتها بتل يافعة البياض تطرحها الدواوين، ليوأد الياسمين قبل ارتكابه إثم الفوح.
قم يا نزار..
قم دلني على درب المعنى الذي تهته في منفاي فدلالات شوقي فقدت بوصلة جهاتها.. قم دلّني من مقام حضورك على باب العناقات وعلمني كيف أعيد من جديد ترتيب القبلات على مبسم ثغرها العطش حسب تسلسل نبض اللهفة.
يا نزار.. هل أترك لك سراً تطويه في دفتر موتك الذي طال؟
أنا أعرف أن الشعراء كلهم كاذبون وأن جلّ قصصهم وقصائدهم محض خيالات وأضغاث أوهام وأدرك وأنت في فردوس قبرك الدمشقي المترف أنك تردّد قسمي القديم: «والحبر إن الشعر لفي قهر». يا نزار.. لقد تعلّمتُ بسليقة العشق أن المحبّ يعودُ حبيبه حتى ولو في الحلم افتراضاً لكن قلبي غزته بلادة برد هذه البلاد.
لتوّي فتحتُ درج خيبتي الكبرى لاسترجاع حكايا عشقي القديم ـ كي لا أتوه عني ـ واستللت منه على دمع جواز سفر عتيق «أزرق» النيات موشّى بعنفوان «نسر».
*كاتب عربي/ فيينا.