وجع القصائد ومقاربة الشيء الأجمل
} منال محمد يوسف
يا له من وجع القصائد سرّه حبّاً، طفله مشى، سنبله مجد لا ينام، جماله لا يُرتق إلاّ بجمالٍ آخر… هكذا هو، وهكذا يطلُّ علينا صبح القوافي، تشرأبُّّ نوافذ جماله بألف لغة ولغة ويبقى كالريح الجريحة، قوافيه تبدو ثُكلى، موسيقاه تراتيل النفس الحالمة، وتراتيل الحروف في أوج التمنّي والتغنّي ويا له من وجع القصائد، من نداء السفرجل إن نادى على الأيام إن قال كلمته. وبوحٌ يعتزمُ الجمال حالاً من قمريّة أحواله، يعتزمُ الإفصاح عمّا يشغلُ باله، وبال قصائده.
أي وجع هذا الذي يحبو كطفلٍ، يمسك قناديل مُزدانة الضوء «ضوء الأحزان ربّما»، هكذا نقرأ الصوت الحزين الآتي من عوالم القصائد، وبوحها المسكين، المستكين ربّما.
ذلك البوح الشعري الذي يحادث الروح ولهاً أو وجعاً، يحادثُ شجونها غيرةً وكلمات مُنمّقة الألفاظ، جمالها موزون القوافي، مجرور المعنى وما يحتوي عليه، مجرور اللفظ الشعري وما أبهاه! ذلك اللفظ الذي يستخلص وجدانيات النفوس، ويلخّصُ شيئاً من مرام الشيء الشعري الذي نصبو إليه. نصبو إلى جماليات بوحه المستعر أدباً والمستعر شيء جمالي القيم رغم الوجع الساكن فيه والذي يُسمّى «وجع القصائد» وجعها الظاهر والباطن أو المستوطن، المستبطن بين ثنايا السطور والحروف، حيث تبدو علائمه وكأنها بوح أزليّ يحادث الذوات ويضيء قوسَيْ تعجّبها والاستفهام اللاحق بها الذي يُدعى في أحقيّة ما يُدعى وجع يلحق بنا أو بتلك القصائد التي نكتبها أو تكتبنا هناك بين فصول الحياة ورواية الأبجدية، بل بين سطور كلّ الأبجديات التي تسأل معنا: تسألُ عن القصائد وسرّها أو سرّ غيمها وإن هطل جمالاً… هطل شيئاً آخر وما أحلاه!
شموس قصائدها تبدو وليدة الإشراق الدائم رغم ما مرَّ عليها، تبدو وكأن يمام النور حطَّ حيث هي، تلك القصائد المجروحة ربما ولكن شهدها يبدو مريميّ الحروف أو خريفيّ الفصول، لغته تشبه الجمال ومسمّياته قولاً وفعلاً، تشبه قامات سنبلاته، مفرداته العذبة الشيء والأشياء، وكأنه الجمال ونثريات وجعه أو نثريات قمره الذي يسكننا معلّقات مُزدانة الأحزان، مُزدانة الشهقات اللفظية، وإن لفظ الشيء محاره الأبهى، محار سفرجله الذي يسكن هذه القصيدة أو تلك يسكنُ مُبتغى الكلمات وطيبها، يسكن تفاصيل القصيدة وبوح وجعها، بوح قولها الناطق شعراً منظوماً، شعراً منطوقاً، أو ربما شيء آخر لا تجفّ محبرة جماله ولا تخفت أقماره ولا تنتهي غصة جرحه أو جرحنا المنطوقة كلاماً مُذهّب اللغة كلاماً يحدّه الجمال من كل جانب، وتحدّه ورود الأحزان «أي حزن القصيدة» وما يتبع لها، ذلك الحزن المُرتّل وكأنه ذاكرة القصيدة أو ديوان الجمال المحفوظ بطابع القصيدة ووجعها الدائم أو بطابع ذاكرتنا نحن وما يُختلج بين الثنايا، بين جمعها وأنّات ووجعها، أنّات الشيء الذي يجعلها الشيء الأقرب إلينا، الشيء الجمالي الآخر.
ذاك الشيء الذي يُترجم ما يختلج في ثنايا الروح ويستخلصه على شكل أشياءٍ تقاربُ «وجع القصائد» تُقارب مفهومها الجمالي ولغته الزاهرة عشقاً أو وجعاً، تزهر بها القيم الشعرية وما أجملها، عظمتها تقارب ما ترتّله قوافي القلوب وما تنطق به تقارب الشيء الأجمل المنظوم مما نهوى ونكتب تُقارب ذاك الشيء الذي نحاول صياغة مقاربته بشكل أكثر جمالاً، وأكثر عظمةً، ذلك الذي تسمو به جميع المُسميّات والتي تُسمّى مقتضى وحالنا، تُسمّى «وجع القصائد».