بناء الشّخصيّة في القصة الوجيزة
} د.دريّة كمال فرحات*
انطلاقًاً من اهتمام ملتقى الأدب الوجيز بقضايا نقديّة حول القصة الوجيزة، كان الحرص على الغوص في التطبيق، واختيار نماذج من إبداع الأدباء، ومحاولة إظهار ما فيها من ملامح وسمات القصة الوجيزة، كما يراها ملتقى الأدب الوجيز. من هنا سنبحث في هذه الأسطر عن بناء الشّخصية في قصص وجيزة للكاتب التونسي أحمد بن إبراهيم.
تعدّ الشّخصية، أو البطل بصفة خاصة، أهمّ مكوّن في بنية النّصّ السّرديةّ، وتجدر الإشارة إلى أنّه في القصة الوجيزة لا يمكن الفصل بين الشّخصية القصصيّة والحدث، فلا شخصية بلا حدث، والشّخصية القصصيّة تأتي محققة تواجدها في المتن القصصي، أي إن القصة الوجيزة تعتمد في بنائها على شخصية واحدة مأزومة، وهي التي تقوم بالحدث، ولا نحتاج إلى تفصيلها وتبيان ملامحها الجسديّة أو النّفسيّة او الاجتماعيّة.
فالشّخصية هي التي تحرّك أحداث القصة، وإذا تتبّعنا قصص أحمد بن ابراهيم، يتبين أنّه في قصة ارتباك:
«الزهرة الحمراء السّمينة صفعها الخريف. تسلّقت سياج الحديقة. تراقص جنون جذورها البغيضة»،
استند إلى شخصية غير إنسانيّة، فكانت الزّهرة التي تواجه صراعًا متعدّد الأوجه، أوّلها من الخريف وثانيها من جذورها البغيضة، وهي وسط ذلك تحاول البقاء والصّمود، فكان الحدث وهو الانطلاق إلى البعيد وتسلّق سياج الحديقة. فكانت هذه الشّخصية مصوّرة لحالة التمّرّد، فهي تمرّدت على واقعها، أي الخضوع للخريف الذي يأتي معه تساقط الورق من الجمال والخضرة، والميل إلى الاصفرار. ومن الواضح أنّ القاصّ قد استخدم شخصيته هذه رامزًا من خلالها إلى البعد النّضالي المتمرّد، فكان التّسلّق هو رمز النّجاة، وإذا تطلّعت هذه الزّهرة إلى الأعلى فإنّ هناك ما يشدّها إلى الأسفل، فجذورها ما زالت في الأرض. إنّ هذه الشّخصية ترسم لنا وجوهًا عديدة للصّراع، منه الصّراع بين الماضي والمستقبل، بين التقاليد والتجديد، بين الموت والبقاء. واللافت هنا أنّ الشّخصية في هذه القصة وإن كانت زهرة إلّا أنّها استطاعت أن تعبّر عن الدّلالات الإنسانيّة السّياسيّة أو الاجتماعيّة، واعتمد الكاتب ضمير الغائب في السّرد، ما يدلّ على تحريك الرّواي لما حدث مع الزّهرة.
أمّا في قصة حقيقة:
«يعود من (عمله) متعبًا آخر الليل. يقلقه ديك الجيران. سرقه. بعد أيام جهّزوا مسجد الحيّ بمضخّم صوت»، فيرسم الكاتب شخصية البطل الباحث عن الهدوء والرّاحة، وهو العائد من عمله متعبًا منهكًا، ليواجه صياح الدّيك، فكان الحلّ بالتّخلّص منه عبر سرقته، لكنّ الواقع يواجهه بحلّ من نوع آخر وهو استخدام مكبرّات الصّوت. إنّ أزمة الشّخصية في هذه القصة تواجه التّضاد بين رغبتها ورغبة المجتمع. ومن الواضح أنّ القاص هنا بنى حدود الشّخصية في هذه القصة من خلال الوصف الدّاخلي، فكان التّعب هو المسبّب إلى السّرق، لكن المفارقة هنا أنّه لم يحصل على مبتغاه، بسبب ما قام به الآخرون من تجهيز المسجد بمضخّم صوت. ولعل أزمة هذه الشّخصية ترسم لنا أزمات أخرى منها الاختلاف بين القديم القائم على البساطة (الدّيك) وبين الجديد الذي اتّجه إلى وسائل التّكنولوجيا (مضخّم الصّوت)، أو أنّ الشّخصية تعيش أزمة مواجهة الحقيقة التي لا يمكن كتم صوتها.
ويستمرّ القاص باستخدام ضمير الغائب في سرده قصّته طموح:
«أخبرنها أنه يحمل «أسفاراً» وهو تحت الطلب. ركبته وهي تسأله سُبُلَ شُهرتها فقاطعها «دربُكِ يفوق العجب». وتظهر في هذه القصة شخصية محوريّة وهي شخصية الفتاة الطّامحة الحالمة بالأفضل، وقد برزت بشكل واضح، فهي التي تسأل وتسعى إلى الشّهرة، بمقابل شخصية مبهمة تسهم في تحقيق الطموح، ويعتمد القاص هنا على الحوار بين الشّخصيات، فهناك مَن يرسل لها الخبر، وهي تسأل والآخر يجيب، وتعتمد القصة على حاسة السمع عبر الصوت الخفيّ، وتكون قفلة القصة بالتّصريح بأنّها تتجاوز الطموح، ومن الجلي أنّ الشّخصية في القصة الوجيزة لا تحتمل تنوّع وظيفتها، فيكون على القاص أن يستثمر عنصرًا مناسبًا لبناء الحكاية. وهنا كان الاستناد إلى سلوك البطلة السّاعية دائمًا إلى العلا، وما يلفت في هذه القصة الغموض الذي يلفّ هُوية المقصود بالضّمير «أنّه». فمن الدّلالات عليه بالنّصّ أنّه يحمل أسفارًا، ويُركب، لكنه في قفلة القصة يقاطع الفتاة معلنًا تفوّقها. وقد يكون هو الصّوت الخفي النّابع من الدّاخل.
وفي القصة تلصّص:
«صادف أن مجّد الشِعرَ «همسًا» بمجرّد أن تصفّح مجلة تحمل قصيدًا مصحوبًا بصورة امرأة عارية. أشهر وهو يبحث عن صاحبة الصورة في دور الثّقافة».
نكتشف أنّ أزمة الشّخصية تبدو من خلال حالة التّناقض التي تعيشها، فكان الغرام بالشّعر لأجل الصّورة العاريّة، إنّ القاص يبحث عن شخصياته التي يستنبتها داخل المجتمع، وذلك بتمكّنه من استعراض حالات اجتماعيةٍ في الغالب، والتركيزِ على تحوّل الشخصية، وتحوّلها هنا كان سببه الصّورة. ولعلّ القاص هنا يُشير إلى نماذج اجتماعيّة يرى أنّها موجودة في المجتمعات الثّقافيّة، وما هي إلّا طفيليات تتلصّص على هذا العالم.
وخلاصة ممّا قرأنا نلحظ أنّ القاص قد ركّز على الشّخصيات النّكرة التي لا تحمل اسمًا، ولا نجد ما يمنع ذلك، بل لعلّها بذلك تكتسب صفة العموم، أوّ أنّها تتطابق مع الذّات المبدعة، ومهما كان الهدف من التّنكير فالقاص من خلال شخصياته يعكس نماذج من الحياة، التي يعبّر عنها عبر القصة الوجيزة تعبيرًا مباشرًا من دون تفاصيل وإيضاحات، خصوصًا لما يتطلبه هذا النوع الأدبي حيث يعتمد التّكثيف والإيحاء، ويترك للمتلقي الباب الواسع ليكون الشّريك في العمل.
*أستاذة في الجامعة اللبنانيّة – عضو ملتقى الأدب الوجيز.