فوائد صفقة القرن أكثر من أضرارها
ناصر قنديل
– أمام الصخب والضجيج الذي نسمعه عن مخاطر صفقة القرن واعتبارها تحوّلاً مفصلياً نحو تصفية القضية الفلسطينية، نحاول التدقيق في الإجابة على سؤال، هل سيغيّر الإعلان الأميركي عن منح كيان الاحتلال التصديق على اغتصاب فلسطين والقدس وإسقاط حق العودة للاجئين في الوضع القانوني الدولي لهذه الركائز التي تتكوّن منها القضية الفلسطينية. فنسأل هل سيغيّر إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب من موازين القوى السياسية والعسكرية بصورة تتيح لكيان الاحتلال سحق إرادة الشعب الفلسطيني بالقوة وفرض قبول هذا الذل والاستسلام؟ ثم نسأل هل يوجد أي احتمال لإمكانية قبول سياسي وشعبي بالعرض الأميركي يمنح مشروعية للصفقة لتصير صفقة، سواء في السلطة الفلسطينية أو خارجها، هل يوجد مَن هو قادر على قبول مقايضة الهوية والقضية بالمال واتحاد بلديات، مقابل سوبر دولة لكيان الاحتلال، ومنح هذا القبول نسبة وازنة من الشرعية الشعبية والسياسية والحماية لفرضها كأمر واقع؟
– عندما يأتي الجواب على كل هذه الأسئلة بالنفي، أي أن لا قدرة أميركية على جعل القرار الأميركي قراراً أممياً يغيّر من الوضع القانوني للأراضي المحتلة وللقدس ولحق اللاجئين بالعودة، وأن لا قدرة إسرائيلية مع الدعم الأميركي المفترض على فرض هذا الحل بالقوة، وأن لا وجود لفرضيّة إيجاد شريك فلسطيني يمنح المشروعيّة الشعبية والسياسية للصفقة ويمهّد لفرضها كأمر واقع، يصير ممكناً القول إن لا أخطار وجودية على القضية الفلسطينية من إعلان ترامب، وأن حدود النتائج المؤذية هي في إقدام كيان الاحتلال على المزيد من إجراءات الضمّ والاستيطان، بتغطية ودعم أميركيين، وأن ما سيترتب على الإعلان الأميركي بالمقابل، إنهاء عقود من الوهم تحت عنوان التسوية السياسية للقضية الفلسطينية، وعقود من الزيف بتسويق واشنطن كوسيط نزيه بين فلسطين وكيان الاحتلال، وإسقاط مزيد من الأقنعة التي عاشت عقوداً على وجوه حكام عرب أدمنوا النفاق بادعاء التمسّك بالحق الفلسطيني وهم يدمنون الولاء والخضوع للمشيئة الأميركية، فهل في هذا ضرر يُصيب القضية الفلسطينية؟
– ما سيترتّب على الإعلان الأميركي هو أنه يضع القيادات العربية بين خياري، التمسك بالولاء والخضوع لواشنطن أو التمسك بالحقوق الفلسطينية، وهذا يعني الحكام والنخب والأحزاب، وكذلك يضع القيادات الفلسطينية أمام خيار حصرية المقاومة الشعبية والمسلحة كطريق لحفظ الحق الفلسطيني، والدفاع عن وجود القضية والهوية، والتخلّي عن أوهام التسوية وعن نظرية 99% من أوراق اللعبة بيد أميركا، لأن ما بيد أميركا هو بيد “إسرائيل”، وما سيترتب هو أن الفلسطينيين سيعرفون مَن هم حلفاؤهم بين العرب وفي العالم، ومَن هم المتآمرون عليهم. وهذا سيقضي على أخطر مرض يجتاح البلاد العربية وهو المذهبية والطائفية، وأن المنطقة ستنقسم سياسياً بين جماعة “إسرائيل” تدعمها أميركا، وجماعة فلسطين تدعمها شعوب المنطقة ومقاوماتها.
– كانت دائماً مهمة واشنطن في تقديم الحماية الحقيقية لكيان الاحتلال تتجسّد بإدامة وجود وهم لحل القضية الفلسطينية عن طريق التفاوض، وإدامة وهم التمايز بين واشنطن وتل أبيب، لمنح القيادات العربية والفلسطينية التي تدور في الفلك الأميركيّ، فرصة تحييد النسبة الأغلب من الشعوب عن طريق المقاومة، بداعي انتظار نتائج التفاوض، وما يفعله ترامب هو التخلّي عن هذا الدور، والقول بالفم الملآن، ليس هناك واشنطن وتل أبيب. فواشنطن هي تل أبيب وتل أبيب هي واشنطن. وهذه فرصة لوحدة عظيمة لصفوف الشعب الفلسطيني، وفرز تاريخي للخيارات في المنطقة، ونتيجة حتميّة ترفع من شأن خيار المقاومة، وتجعل الصراع مع مشروع الهيمنة الأميركية الإسرائيلية واحداً، وتجعل القوى الحيّة على مساحة المنطقة في الحكومات والأحزاب والنخب والشعوب في جبهة واحدة.
– كانت صفقة القرن لتخيفنا، لو كانت في زمن الانكفاء والانكسار في الموقف الروسي، وقدرة واشنطن على فرض رؤيتها على مجلس الأمن الدولي لإسقاط الغطاء القانوني عن مقاومة الشعب الفلسطيني الرافضة للتنازل عن الحقوق. وكانت لتخيفنا لو أننا نعيش زمن صعود القوة العسكرية الأميركية والإسرائيلية وبالتالي قدرتها على سحق قوى المقاومة في فلسطين والمنطقة. وكانت لتخفينا لو أنه بقوة الحضور الدولي الأحاديّ لواشنطن وقدرة القوة العسكريّة على سحق قوى المقاومة، تولّدت حالة من اليأس والخضوع على الساحة الفلسطينية توفر للصفقة شرط اكتمالها بشريك فلسطينيّ وازن، يشتري ويبيع، أما وأن كل هذا ليس في دائرة الممكن فلماذا التفجّع؟
– التفجّع على وقوع كارثة اسمها صفقة القرن، يناسب الذين ربطوا مصيرهم السياسي بوهم التسويات والتفاوض والوساطة الأميركيّة، فيجدون أنفسهم في مأزق وجودي بين السير في مشروع ترامب الذي يعادل الانتحار، أو الانتقال إلى معسكر المقاومة مرغَمين. والتفجّع يناسب الذين لبسوا أقنعة الدفاع عن القضية الفلسطينية وتخندقوا في واشنطن، لأنهم يجدون أنفسهم أمام صعوبة الحفاظ على توازنهم وكل قدم في خندق. والمسافة تتسع بين الخندقين وقد بات عليهم حسم أمورهم، وإسقاط أقنعتهم. والتفجّع يناسب الذين أمضوا حياتهم يرسمون الخرائط لتوليفة يرضاها الأميركي ويقتنع بها الإسرائيلي، وهم يظنّون أن التسوية آتية ومشكلتها تقنية، أما الذين يؤمنون بأن فلسطين لأهلها من البحر إلى النهر، ويؤمنون بأن القدس الموحّدة عاصمتها، ويؤمنون بحق شعب فلسطين في الشتات بالعودة إلى أرضه وتقرير مصيره وبناء دولته، فيجدون بما يجري تأكيداً لما أفنوا العمر وهم يردّدونه على مسامع الأرض، بأن لا أمل يرتجى من الرهان على أميركا، وأن لا حلّ مع هذا الكيان ولا عودة للحقوق إلا بالمقاومة، ويجدون بما يجري مزيداً من الروافد لتأكيد منطقهم وصواب خياراتهم، ودفعاً لها للتقدّم لتصير خيار الشعوب في المنطقة بعد سنوات من التخدير تحت عنوان الوسيط الأميركي النزيه والخيار التفاوضي الممكن وانتظار التسوية الآتية.