اليوم توقّفت عقارب الساعة وتعطّلت آلة الزمن…
} علي حسن عبدو*
اليوم وصل الخضوع والخنوع العربي ذروته، وشربت شعوب الأمّة كؤوس الذلّ، في وقت قدّم حكّامها كلّ ما تملك تلك الشعوب من مقوّمات وتاريخ وحضارة على أطباق من ذهب للمُحتلّ.
كان واضحاً أنّ المسار الأميركي بعد فوز ترامب بالإنتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، هو أنّ التوجّه الصهيو أميركي شارف على إعلان صفقة القرن، وأنّ مُهندسي هذا الفريق في صدد وضع اللمسات الأخيرة لسرقة ما تبقّى من فلسطين وما تبقّى معها من عِزّة هذه الأمة وكرامتها، علّنا نفقه التاريخ ونجعله كتاباً نتعلّم منه دروس الحاضر لصناعة مستقبلٍ أفضل…
لقد كانت جلية الأخطار المحدقة للتفاهمات الدولية التي لا مكان لنا فيها، والخيانات العربية، والضعف المستشري، وكانت سياسة ترامب وبورصة توجّهاته الخارجية واضحة.
اليوم، لم يعُد ينفع الندم، فقد توقفت الساعة عند المؤتمر الصحافي الذي جمع ترامب ونتنياهو، علا التصفيق في القاعة، وهلّل الحاضرون محتفلين بهديّة ترامب لإسرائيل، وتهديداته المباشرة لفلسطين «إقبلوا ما تبقّى من جزئيات دولة كانت يوماً تُسمّى فلسطين أو ستخسرونها كُلّها، إقبلوا بشبه دولة دون مقوّمات يا من كنتم أصحاب الأرض، وتنازلوا عن كلّ شيء لمن كان من المُفترض أنّهم مُحتلّون وكان يجب أن تنصركم الأمم المتحدة في طردهم وتُساندتكم في تقرير مصيركم واستعادة أرضكم».
اليوم، وفي واشنطن، تبادل ترامب ونتنياهو الهديّة الأثمن في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، فترامب أهدى نتنياهو دولة على طبقٍ من ذهب سيُقدّمها الأخير لمستوطنيه ويُنسيهم بها تُهم الفساد ومسارات المحاكمة، في حين نجح ترامب في ترسيخ مِنعته كمرشّح جديّ للإنتخابات الرئاسية الأميركية المُقبلة دون أن يُعير أيّة أهميّة لمحاكمته ومحاولة عزله.
هو خطاب نُسجت كلماته بأحرف الترهيب والترغيب، واستُحضِرت بين سطوره كافة مصطلحات التاريخ والجغرافيا والحضارة والثقافة والدين والعقيدة.
لكن، في علم السياسة، وفي قضيّة كالقضيّة الفلسطينية، هل سيُدرك الأميركي كلّ ما يرسمه ويخطط له، وهل كلّ ما يسعى إليه الإسرائيلي سيجد الطريق مُعبّدة أمامه للوصول إليه!
إنّه لمِن الحماقة بمكان أن يظُنّ من علت أصواتهم بالتهليل والتصفيق، ومن رسم وخطط وذاع البيان أنّ هكذا صفقة ستمُرّ بالبساطة التي سمعناها.
لقد نسِيَ هؤلاء أنّ هناك أُمّة لها رأيٌ آخر، وأنّ هذه الأُمّة قاومت بشرف، وعطّلت المشاريع الأميركية والإسرائيلية، وجعلت الأخيرة تشعر بعقدتي العُزلة والقزمية خصوصاً في العقدين الأخيرين.
لقد وثق «الإسرائيلي» بتُرّهات ترامب، وعاش الأخير أوهام الرجل المُخلّص لـ «شعب الله المُحتار».
لم يعلم المُهللون اليوم بأنّ المواجهة أصبحت مفتوحة، ولم يُدركوا أنّهم أحرقوا كلّ مفاعيل التهدئة والهدنة والسياسة والدبلوماسية، وأنهم وضعوا شعوبهم على مشارف أيامٍ سوداء سيترحّمون خلالها على أوهامٍ كانوا يعتقدون أنهم سيصِلونها.
في السياسة: انتهى زمن المُجاملات السياسية والدبلوماسية، وانتهت معها مفاعيل الاتفاقيات المشبوهة.
وفي منطق الشعوب: إنّ ما تمّ الإعلان عنه اليوم سيفرز واقعاً جديداً بين أبناء الأمّة العربية، وسنشهد ردود فعل بعيدة أيضاً عن المجاملات وترضية الخواطر والمصالح، وواقع شعبي جديد يُؤمن بالمقاومة ويدعمها ويعتبرها المِدماك الأساس لبناء المرحلة المُقبلة، وسيُشكّل قلقاً واهتزازاً للعديد من الأنظمة والحكومات.
أمنياً وعسكريّاً: إضافة إلى ما أفرزته عملية استشهاد قائد فيلق القدس الشهيد قاسم سليماني من ردّ واضح رسم استراتيجية المرحلة المُقبلة بطرد القوّات الأمريكية من الشرق الأوسط، وربطاً بما تمّ الإعلان عنه اليوم يؤكّد أننا أمام مرحلة جديدة تختلف بالشكل والمضمون عن سابقاتها، وأننا سنشهد مقاومة أكثر رصانةً ووحدةً وحدّةً ووعياً ودقّةً وذكاءً وإصراراً وعزيمةً… وانتصاراً.
فأمام مشروعين متناقضين «مشروع احتلال واستكبار» و «مشروع مقاومة لرفع الظلم» لا بُدّ أن ينتصر أصحاب الحق والأرض والإرادة الصادقة والعقيدة الراسخة، إذ أنّ مسار التاريخ لا تُلغيه الإعلانات والصفقات، التاريخ راسخ طالما أننا لا زلنا نسمع كلمة حقّ تُقال، وبُندقيّة تُصوّب رصاصها بُغية إحقاق الحق، ورجالٌ لا تخشى لومة لائم.
أمّا الحفاظ على التاريخ فقطعاً ليس بالتّمنّي والتنديدات، ومواجهة تزويره بصفقات مشبوهة لا تنفع معها المؤتمرات والاتفاقات الانبطاحية الأكثر شُبهةً، أو المُسايسة الكاذبة. الحفاظ على التاريخ بالأفعال، بالجهاد، بالمقاومة الصادقة الرصينة.
لقد تباكيتم أيُها العربان على فلسطين حتى ضاقت بكم ذرعاً، واليوم تُلملمون ما تبقّى لكم من أطيافٍ بائسة كأعجاز نخلٍ خاوية، في حين سيلعنكم أصحاب الأرض، وسيحصد النصر سلطان كلمة الحق التي ستُقال بلسان كلّ طفل فلسطيني شُجاع، وأصحاب السواعد المقاومة بالحجر في وقت كنتم تُقدّمون دنانيركم ونفطكم لذبح هؤلاء الأطفال ودفن شجاعتهم وإسكات صوتهم.
الواضح أننا اليوم أمام تحوّلات جذريّة، وأمام مرحلة دقيقة وخطيرة أكثر عُنفاً من سابقاتها، ستُستعمل فيها كافة أنواع الضغوط العسكرية والإقتصادية والمالية والفتنوية من قِبل أصحاب المشروع الصهيو أميركي، وفي المقابل مقاومة أكثر بروزاً وشجاعة ووحدة وشراسة، وستُثبت الأيام أنّ ترامب ونتنياهو وفي سعيهم لتحقيق مكاسب شخصية أغرقوا دولهم وشعوبهم في مستنقعات لم تعتد الغوص في وحولها.
فلتطمئنّي أيتها القبلة القدسيّة الجريحة، ولتقرّي عيناً لأنّه سرعان ما تلتئم جراحك، فشرفك يأبى لكِ التحرّر إلّا على أيدي المؤمنين الشرفاء، والمؤمنون الشرفاء لكِ ومنكِ وإليكِ ثائرون.
*باحث في العلاقات الدولية والدبلوماسية