خطة ترامب نتنياهو: خراب الهيكل الذهني!
} محمد نعيم فرحات*
على أحد ما أن يشكر ترامب،على إعلانه الواضح والفصيح عن حقيقة الموقف الأميركي تجاه فلسطين وحقوق الفلسطينيين.
مواقف أميركا من مسألة فلسطين وحقوق شعبها، كانت دائماً هكذا، جرى التعبير عنها سابقاً بصيغ مراوغة، وهي لم تقل عكس ذلك، حتى نتهمها بالتراجع. نحن الذين لم نشأ، أن نقرأ مواقف أميركا وخلفياتها على نحو صحيح، ونحاول فهمها بالعربي الفصيح.
***
منذ قرن تتواصل نفس العناصر المنتجة لسؤال فلسطين ومأساة الفلسطينيين: الحلف الغاشم بين «إسرائيل» والغرب. وهو حلف تصل مدياته القصوى من العدوانية اللئيمة والتي تتحوّل في السنوات الأخيرة إلى عدوانية حمقاء، وتواطؤ الكثير من الأبنية الرسمية العربية وعجز بعضها، لكن النتيجة تظلّ واحدة… وهن وخذلان عند من يفترض أن يكونوا البيئة المساندة لفلسطين.
وثالثاً، سوء الصنيع السياسي والاستراتيجي الذي تحكّم بأبنية العمل السياسي الفلسطيني وتعاطيها في كلّ الحقب، إن عطباً ما يلحظ في إدراك الفلسطينيين وطريقة وعيهم للمشهد. عطب كان من أسوأ مترتباته: إرهاقه لجلد شعب ومقاوماته المتعدّدة، بدل أن يضعه على أول طريق شاق يكون واعداً، لقد عاشت السياسة الفلسطينية منذ قرن كثيراً على بركات فلسطين، ولم تلاق هذه البركات بنسق سياسي مناسب يتسم بالتواصل.
العوامل الثلاثة تقف أمام منعطف حاسم. العدوانية الحمقاء تصعد نحو غباء استراتيجي، وسط تفاقم الهوة التي تتسع بين قوّتها من جهة وقدرتها على استخدام هذه القوة من جهة أخرى. كما أنّ عاداتها في التفكير والتعاطي تشير لوجود «داعشية ذهنية» لا تريد ان ترى الواقع ولا المتغيّرات التي تحصل فيه، ولا تريد أن تعترف بأنّ الزمن قد تغيّر، انها تتصرّف وفق منطق قديم لم يعد صالحاً مع المتغيّرات الحاصلة. وترى ماذا صنعت يداها في المنطقة وفي شعوبها، لكنها لا تريد أن ترى العواقب. وبدل أن تطوّر وعيها الاستراتيجي العقلاني، تعود للتموضع في رواسب إيديولوجية بائسة لا مجال لاستمرار بقاء نتائجها في الواقع والتاريخ.
وبالنسبة للمحيط العربي، فإنه يشهد حالة فرز غير مسبوقة تعبّر عن نفسها في كلّ لحظة وكلّ حدث، هناك عربان: عرب فلسطين، وعرب يساومون بها ويتواطأون عليها، ولا يحتاج تصنيف معسكري العرب لأيّ جهد، المسألة تجرى علناً وعلى رؤوس الأشهاد، لا تورية فيها ولا خجل مجامل.
أما الفلسطينيون فقد أخفقت القوى التي تحكّمت فيهم وقادتهم في العقود المتتالية، في بناء نموذج صمود متكامل، وفي بلورة رؤية ومشروع وخارطة طريق لا خلاف عليها، سواء في سياق نضالهم الوطني أو في إدارة شؤونهم الداخلية وعلاقاتهم مع بعضهم البعض، ورغم انّ تاريخهم المعاصر قد عرف لحظات قدرة لافتة، غير أنها كانت محاطة بقوة إخفاق فعّالة، ومنذ عقد ونصف يشهدون في كلّ السياقات التي يتحرّكون فيها أسوأ أحوالهم، ورغم انّ الواقع الذي يعيشونة يتضمّن شتى أنواع الصدمات التي تدعو الوعي للتيقظ، إلا أنّ الاستجابة الفعّالة في هذا السياق لم تحصل بعد، كما انّ استجابة وعيهم للصدمات الخارجية لم تكن أحسن حالاً.
***
إنّ الحالة التي خلقها الإعلان الأميركي «الإسرائيلي» الأخير، لا تدعو للفزع أو للخوف، إنها تحتاج للتحسّب بالمعنى العميق للكلمة. وفي مكان ما يمكن القول بأنها صدمة تتوفر على فرصة ثمينة، للتعبئة الإيجابية، واستنهاض الوعي والإدراك بصورة ملائمة، والتعوّد على نمط جديد غير مسبوق من القراءة والتقديرات الإستراتيجية. وإنتاج دليل وطني عام يشارك فيه الجميع، ويؤمن به الجميع ويعمل في ظلة الجميع. أما الردّ السياسي والاستراتيجي على رمي «إسرائيل» والولايات المتحدة لخيار الدولتين، فله شكل واحد، هو ان يغادر الفلسطينوين خيار إقامة دولة مستقلة بحدّ أدنى، والذهاب نحو خيار دولة لكلّ مواطنيها وساكنيها، تكون من البحر إلى البحر. وان يقولوا لمن يعنيهم الأمر، انّ من يحاول حرمانهم من بعض حقوقهم هنا، أن يرى ويعرف ويسمع بأنهم يطالبون بكامل حقوقهم هنا وهناك. ورغم انّ كلّ الحلول التي يفترضها العقل للصراع مستحيلة التطبيق بسبب موقف «إسرائيل» أساساً، إلا أنّ خيار الدولة لكلّ مواطنيها وساكنيها يظلّ الأقلّ كلفة ثقافياً وإيديولوجياً وسياسياً، وعلى استحالته، يظلّ الأجدر للعمل من أجله، إلى أن يقضي التاريخ أموره التي ستصبح مفعولة.
***
تعيش كلّ الأطراف المنخرطة في الصراع على فلسطين وأقدار المنطقة ومقدراتها في كنف ضائقة وجودية إستراتيجية، كلّ في نحوه، وسط استبعاد للعقلانية والموضوعية في قراءة المشكلات والحلول والاحتمالات.
وفي وقت خاطئ تماماً ترمي أميركا بأخطر مواقفها بخصوص المسألة، بينما تعيش حالة انحسار وضمور يتفاقم في حضورها في المنطقة والعالم، فيما «إسرائيل» التي تقيم وسط قلق وجودي عميق يمكن رؤيته بالعين المجردة، فتمنع وعيها بعناد من كلّ ما هو لازم وضروري لها، بما في ذلك أن ترى في السعي الفلسطيني للتحرر والانعتاق فرصة كي تتخلص من ثقافة الاحتلال وموروثة، وان تقف وتفكر وتستسلم للفرضيات الموضوعية. لأن خيار الخراب الفكري لهيكل تفكيرها وتفكير أميركا سيفضي فقط لتصعيد ضائقتها الوجودية.
وأما الفلسطينيون وبما هم حتى الآن، ضحايا مستدامين لعدوانية مركبة، فلا زالوا في حالة تعثر حتى اللحظة، عن اجتراح مقاربة تفضي بهم نحو أفق، لا ياس فيه، ولا إحباط، تتوفر فرصة حقيقة لاستيلادها.
وأما الأبنية السياسية المتواطئة على فلسطين أياً كانت عربية أم غير ذلك، فهي تأخذ مكانها في قائمة أيتام تاريخ ليس من عاداته ان يكون رحيماً مع من يخطئون، قائمة تتشكل بوضوح سافر أمام ناظر الجميع.
بقي على المعنيين إلا يسقطوا من حساباتهم، وهم يمضون في طرقاتهم الخاطئة، ما يقوله فقه فلسطين في الزمن والتاريخ: إنها شأن من شؤون الأمة وقدراتها الاستراتيجية التي تتشكّل وتنمو وتتوسّع على أعيننا، عبر فاعلين معروفي النسب والعنوان. كما أنها شأن من شؤون السماء.
*كاتب وأكاديمي من فلسطين