} حيدر الهاشمي
وقف إلى جانبي، وضع يده على كتفي، عامل النظافة. كان عليَّ أن أشتريَ له قطعة من الهبرغر، لكني تقاسمتها معه، لأني لا أملك المزيد من النقود. أنفقت راتبي على المسكن وعلى فواتير الكهرباء وعلاج السكري. كان ظريفاً معي صاحب الكافتيريا، الذي أتردّد عليه باستمرار، رغم أني أكبر منه بأربعة أو خمسة عقود على ما أعتقد، كان صاحب طرفة، كلما اجتازت قدمي عتبة الباب، نادى خلفي، متى سينهض الوطن، يا لها من أمنية عظيمة. مضى عشرون عاماً وأنا أتردّد على عملي السابق، (المكتبة) أتفقّدها كل يوم، كنت أسقي الأزهار وأمسح الغبار عن الرفوف والكتب، وعلى صوت فيروز استقبل زواري. أشعر بفرح لا يوصَف وتنتابني سعادة غامرة، حين يتوافد عليّ القراء من كل حدب وصوب. أجلس وحدي. أصنع بيدي قهوتي السادة. عندما يتفرّق الجميع، أتحدّث مع تولستوي وانطوان تشيخوف والبير كامو، بكل سهولة. وعندما أغادر المكان، أشعر بضيق في صدري. هي ليست مكتبة وحسب، بالنسبة إليّ، هي عائلتي التي أنتمي إليها. اليوم وقد تحوّل المكان إلى مستودع للأحذية الفاخرة، صرتُ أخشى الاقتراب من المبنى، يلاحقني الحراس كلما رآني منهم أحد، يرمونني بالحجارة و آخر يصفني بالجنون، لا أدري هل أنا جننتُ فعلاً؟
لا.. لا زلت أسمع أصوات رفاقي وقهقهاتهم تتسرّب من شقوق الجدران والشبابيك. أتذكر كيف كان أحدهم يهرب من الدرس وتحت معطفه قنينة شراب من النوع الرديء، والآخر يُخفي بجاروبه علبة السجائر التي كان يسرقها من جدّته، أما الآخر فكان يدخن الحشيشة في التواليت. لقد رحلوا بظروف غامضة، رحلوا الواحد بعد الآخر. أنا الآن أقف وحيداً هنا، أحسب تجاعيد وجهي وشظايا السنين، وبجواري شجرة الكالبتوز القديمة، وعلى رأسها مجموعة من الطيور والحمام، كلما أنّت واحدة منها، فاضت عيني بالدموع.
*سيناريست وقاص عراقي