روسيا نحو الجمهوريّة الخالدة
} د. أحمد الزين
قد يهدم رجل وطناً.. وقد يبنيه رجل، والتاريخ حافل بأسماء هدمت وأخرى بنت…
في السادس والعشرين من كانون الأول/ ديسمبر 1991 صدر عن مجلس السّوفيات الأعلى للاتّحاد السّوفياتي إعلان يحوي اعترافاً باستقلال الجمهوريات السّوفياتية، ولم يكن هذا الإعلان سوى إشارة لانتهاء الوجود القانوني لدولة اتّحاد الجمهوريّات السوفياتيّة الاشتراكيّة..
وقد كان لهذا السّقوط المدوّي للاتّحاد السوفياتي الّذي شكّل على مدى عقود أحد قطبي النّظام العالمي ثنائي القطبيّة آنذاك الأثر البالغ على التوازنات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة على العالم بأسره، ولعلّنا في الشرق الأوسط نختبر اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أثر ذلك السّقوط!
هذا ويُجمع المحلّلون والدّارسون على أنّ أحد أهمّ الأسباب الّتي قادت إلى انهيار الاتّحاد السّوفياتي هو ضعف السّلطة المركزيّة نتيجة لضعف الاقتصاد.. ذلك أنّ السباق إلى التّسلّح الّذي خاضه الاتّحاد السوفياتي ضدّ الولايات المتّحدة الأميركيّة أدّى في بعض جوانبه إلى تراجع الاقتصاد، واستطراداً تراجع الخدمات ممّا قاد إلى اتّساع الهوّة بين الشعب والسّلطة ومن ثمّ إلى التململ من الأوضاع القائمة وصولا إلى تعبير بعض الجمهوريّات عن رغبتها بالانفصال.
وقد حملت روسيا من الاتّحاد المنهار إرثاً علمياً وحضارياً عظيماً لكنّها في المقابل كانت ترزح تحت أعباء اقتصاديّة صعبة وكان عليها أن تنهض فكان فلاديمير فلاديميروفيتش بوتين ذلك الرجل الّذي وصل إلى السلطة في روسيا عام 2000 مفتتحاً سنيّ حكمه الأولى بإصلاحات اقتصاديّة وسياسيّة نهضت روسيا على إثرها لتتربّع في مصاف الدّول الكبرى ولتيمّم شطر السّاحة الدّوليّة باندفاعة واعية وخطوات استراتيجيّة ذكيّة..
ومنذ العام 1999 إلى اليوم ظلّ بوتين حاكماً فعليّاً لروسيا.. وها هو اليوم يقودها نحو إصلاحات كبرى وتغييرات جذريّة في دستورها الّذي تمّ إقراره سنة 1993.
وفي خطوات حثيثة عيّن الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين» «ميخائيل ميشوستين» الشخصيّة التكنوقراطيّة غير المعروفة رئيساً للوزراء وقد جاء هذا القرار في خضمّ هذه الإصلاحات الواسعة الّتي قالت مصادر روسيّة رفيعة المستوى إنّها تمهيد لمرحلة جديدة ستدخلها روسيا بحلول عام 2024 حين سيكون بوتين ملزماً دستوريّاً بترك منصبه، وبطبيعة الحال فإنّ الرّئيس الجديد لروسيا سيحفظ ما اختطته لنفسها من خطوط عامة في السياستين الدّاخليّة والخارجيّة.
وإضافة إلى تحديد مدّة الرئاسة تنصّ الإصلاحات الجديدة على توسيع صلاحيات البرلمان وتقليده مهمّة اختيار رئيس الوزراء بعدما كانت هذه المهمّة من صلاحيات الرّئيس.
وللاقتصاد الحظّ الأوفر من الإصلاحات الجديدة والهدف هو رفع المستوى المعيشي للإنسان الرّوسي من خلال تحسين وتحديث قطاعات الصحة والتربية والرتب والرّواتب…
أمّا في إطار السياسة الخارجيّة، فيوكد المصدر الروسي أنّ في سلم أولويّات الإصلاحات الجديدة تعزيز الشرعية الرّوسيّة أمام الشرعيّة الدوليّة لا تقليلاً من شأن القانون الدّولي بل تخفّفاً من الإملاءات الغربيّة على روسيا والتي تأتي دائماً تحت شعارات قيميّة تكرّس الغلبة للقيم الغربيّة على القيم الأخرى في العالم.
وعلى الساحة الدوليّة بعث بوتين برسائل إلى قادة دول مجلس الأمن الدولي يقترح فيها تنظيم قمّة لمناقشة شفّافة وموضوعيّة لجميع أزمات العالم بهدف إيقاف النّزاعات الإقليميّة والقضاء على احتمالات قيام حرب عالميّة جديدة.
العالم يتغيّر، وكأنّما تجري عمليّة صياغة جديدة له، وفي الغرب تحديداً هنالك من يسعى ليكون هذا العالم الجديد كما يريد له هو أن يكون، وفي المقابل هنالك قوى عالميّة، من ضمنها روسيا، تسعى للدّفاع عن تاريخها وموروثاتها ومستقبلها.. وها هي روسيا، بوتين تواجه من جديد الداخل الروسي وتنطلق نحو العالم الخارجي بوجه جديد قادر على مجابهة التّحدّيات المستجدّة وتسير بخطوات جبارة نحو الدولة الخالدة.. الدّولة التي وإنْ دعّم بنيانها رجل فإنّها تبقى أهمّ من الأشخاص فهم يذهبون وهي ستبقى.. وفي الوقت الذي يسعى فيه ترامب الأميركي لإرضاء اللوبيات والناخبين في سبيل التّجديد لولاية ثانية نرى بوتين يهيّئ روسيا لمرحلة تنطلق فيها بدونه.. هكذا يبني الرجال الدّول…