المقاومة الثقافيّة…!
} أمين الذيب*
طرح الدكتور سلمان كاصد – العراق، مُصطلح النبوغ الانفجاريّ، للحوار الثقافيّ، وما هي تبعاته على المسار الأدبيّ، خاصّة الشعر.
قد يكون هذا السؤال الأكثر إلحاحاً الآن، لأسباب عديدة، منها ما يطالعنا على مدار الساعة، من منشورات شعريّة على صفحات التواصل الاجتماعي، والتي بات مُعظمها يُشكّل تهديداً انطلاقاً من وجهة نظر العديد من النُقّاد، فإذا انطلقنا من أن الشعر كيان إبداعيّ في حياة الشعوب والأُمم، فالنصّ الشعري هو أعلى مراتب الكلام توقّداً وملامسة لحقائق وجوديّة كونيّة. فالدكتور كاصد يدرك تماماً أن الشاعر يتجاوز الفيلسوف في وجهة نظره الى الحياة والكون والفن، لذلك نراه يطرح الصوت عالياً ومدوّياً للوقوف بوجه هذا الاستسهال القاتل والذي بات يفرض وجوده كأمر واقع مفعول يكاد أن يسِم المرحلة بسماته السطحيّة الغافلة عن مكنونات الإبداع الذي يعمل لابتكار زمن شعري جديد، زمن فكري تجاوزي يؤسس لمذهب أدبيّ جديد، يرتكز في تجاوزه الواقع السائد، على الاتساع الداخلي للطّاقة الشعوريّة في اللغة وطاقة المفردة والإيقاع الداخلي سعياً لإدهاش يكسر أنماط الحواس، الى أنماط فكريّة تعبيريّة تستنبط زمنها الأدبي القادر افتعال الاستنطاق الوجوديّ للكون وللمعنى المسكوت عنه والمكبوت، وقد يأتلف مصطلح الانفجار الإبداعي الى إشارات دلاليّة تصوّب على غياب الفكر النقديّ، وإسقاط المفاهيم النقديّة الغربيّة على أدبنا مما أتاح لكل هذه البلبلة والفوضى الحاصلة والتي تكاد أن تتساوى أو تتساوى مع الغزو الثقافي الذي بات تأثيره كبيراً على كل هذا التخبّط الذي نعاني منه في مسارنا التجديديّ. هذا يضعنا أمام مروحة واسعة من الأسباب والدوافع التي أرست مناخاً يكاد أن يكون سائداً، لارتباطها بشكل وثيق بما تعاني منه بلادنا من ويلات، شكّلت الحالة الأكثر ضراوة في التاريخ البشري، لكون الحرب العسكريّة لم تكن سوى حلقة من حلقاتها المُتشعّبة، والتي طالت حياة المجتمع المشرقي بكافة جوانبه الوطنية والقومية والسياسية والأمنية وأشدها فتكاً كانت الحروب الفكرية والثقافية، التي كان هدفها تدمير شعوب المنطقة ذاتياً، من خلال بثّ أفكار ومفاهيم، عبر وسائل متعدّدة منها السينما والتلفزيون والكتب والروايات والقصص، الى أن ظهرت وسائل التواصل الاجتماعي فكانت الأداة المُعمّمة الأكثر فعالية في تعميم مفاهيم التقسيم والتفتيت وزرع الشقاق بين المذاهب والطوائف والأثنيات، ولا نستطيع أن نُنكر هنا أن مسألة تراخي الوعي القومي المُفترض أن يكون الجامع الموحد للشعوب تحت سقف الولاء الوطني، تمت الاستفادة منها لتعميم مفاهيم دينية تحريضية تكفيرية، وقيام جامعات ومدارس ومؤسسات دينية، لعبت الدور المُنوط بها في تدمير حضارة المجتمع بهدف إنتاج أجيال جديدة فاقدة الذاكرة القومية والوطنية تتحوّل تباعاً الى لقمة سائغة بين أشداق الاستعمار الشديد الشهيّة.
هناك أمثلة كثيرة تدعم هذا الاستنتاج، ولكنني أرغب في الإضاءة على بعض الوقائع التي لا تزال ماثلة أمام الرأي العام، خاصة المُتابع منه، حيث لا يمكننا أن نعتبر تدمير المعالم الثقافية والحضارية الموغلة في التاريخ أنها عمل تخريبي بسيط، نفّذته أفراد تكفيرية مُتفلتة أو غير منضبطة في اللغة المتداولة. إن مُشاهدة تحطيم الثور المُجنّح وسواه من الآثار كان يهدف الى تدمير حضارة شاملة مُؤسسة للمدنية الإنسانية وقطع ذاكرة الحاضر والمستقبل بها، وأي شعب بدون ذاكرة حضارية هو شعب فاقد قدرته على التطور والتقدم. والمثل الثاني، كان تفكيك بنية المجتمع الاجتماعية وتغيير الديمغرافيا وقتل العلماء والمفكّرين ورجالات دولة كبار، وكان نموذج الذبح والسبي وفتاوى جهاد النـــكاح عامـــلاً حاسماً في تدمير المنظومة القيميّة والأخلاقيّة وتهشيم المُثل العليا للمجتمع، بتفكيكه من الداخل والعمل على تهجير المواطنين الى أوروبا وأميركا لتفريغ البلاد من أهلها وإيواء الهجمة الشرسة التكفيريّة الوافدة كأداة لتنفيذ مشاريع أميركا و»إسرائيل» والماسونيّة التاريخيّة للهيمنة على موارد الدول وحماية «اسرائيل» التي أصبحت مهددة بوجودها.
سؤال آخر يفرض نفسه للاستدلال على بعض النتائج التي نسعى للإضاءة عليها، هل العمل العسكري والأمني والديبلوماسي يكفي لمواجهة المرحلة المفتوحة على الاحتمالات كافة، وأخطرها الآن التقسيم الذي أطلّ برأسه من كردستان وبدأت تداعياته تظهر ببعض الدعوات السنية العراقية للانفصـــال في ظل وجود مَن يعتبرها فرصة مناسبة. وهذا البعض يشكل أعداداً كبيرة من أبناء مجتمعنا الجاهزين الى الانخراط في فكرة التقسيم بضمانات إسرائيلية وإقليمية وغربية وأميركية.
إن تشكيل منصّات تبثّ فكراً جامعاً مُوحِداً بات ضرورة وجودية، إن إعادة لحمة المجتمع أضحت مسألة طويلة وشاقة، وهي مسؤولية أخلاقيّة تقع على عاتق كل وطني شريف، فإذا سقط المشرق تصحّرنا ودخلنا في آتون الموت الحضاري، حيث لا قيامة لنا بعده، إن هذا المشرق المتنوّع في غناه الحضاري الثقافي لا زال في مرحلة قابلة للإنقاذ إذا توافرت إرادة المشرقيّين على بعث نهضة تكفل إعادة بناء البشر قبل الحجر، فإذا نظرنا بعين فاحصة، نرى أن الأضرار الروحية والتنافر الحاصل بين أبناء المجتمع الواحد هو أفدح بكثير من تهدّم المدن والبنى التحتية، لقد عمل مشروع سايكس بيكو على تقسيم المنطقة الى دول وشعوب، بينما مشروع الشرق الأوسط الجديد يعمل لتفتيت المُفتّت وتقسيم المُقسّم وبعثرة حضارة رائدة، لذلك فأن حجم المواجهة إذا لم يكن بحجم الأخطار لا يمكن لنا أن نصل الى حياة تليق بقيمنا ومثلنا العليا التي نشأنا عليها.
في الخلاصات، على الحيويّات التجديديّة أن تلحظ وتعمل على إعارة المسألة النقديّة اهتمامها الأول، بمعنى أن نبتكر مدارسنا النقديّة النابعة من فكرنا وفلسفتنا، وهذا ما نعمل عليه في الأدب الوجيز، فأنجزنا في مؤتمر بيروت الذي عُقِد في بيروت في حزيران السنة الماضيّة، كتاباً نقديّاً نتطلّع أن يلقى نقداً أدبيّاً مُحايداً وموضوعيّاً، بعيداً عن الرغائبيّة، كما أنجزنا، وللمرّة الأولى في العالم العربي تأصيلاً للنوع وللمصطلح يرتكزان على هويّة تجاوزيّة، وسيصدر قريباً في كتيّب، كما سنعقد في أواخر آذار المقبل مؤتمر الأدب الوجيز الدولي في تونس، والذي سيصدر عنه كتاب نقديّ إضافيّ.
*مؤسس ملتقى الأدب الوجيز.