ثقافة المواجهة والبناء…
} بلال المصري
في كلّ لحظة يتبدّل ويتغيّر العالم والثابت الوحيد هو نقوش التاريخ البارزة في كلّ زمان التى تأكد وتبرز هوية الأرض وعلاقتها الجدلية مع الإنسان ونتاجه الثقافي الذي يمثل التكامل والإنتماء للأرض بوصفها الوطن.
ولعلّ مأساة الإنسان الفلسطيني ليس فقط في قضية إحتلال أرضه وحسب، وإنما في محاولة طمس هويته الثقافية عبر قطع العلاقة الجدلية بين الإنسان والأرض، في سبيل إلغاء حقه حتى في الحلم بوطن، وذلك عبر نسف حدود هويته الوطنية وامتداداتها العربية وعلاقاتها الثقافية مع العالم بأثره، وإلغاء حقوقه المشروعة بمقاومة الإحتلال الذي يمثل آخر وصمة عار على جبين الإنسانية.
و»صفقة القرن» التي أعلن عنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب مؤخراً تمثل أكبر عملية سقوط أخلاقي في التاريخ المعاصر، ومن اطلع على تفاصيلها يدرك مدى الظلم والغبن الذي تلحقه بالشعب الفلسطيني، وليس غريباً الإعلان عنها الآن في لحظة عصيبة تمرّ فيها المنطقة العربية من حروب وانتفاضات شعبية وصولاً إلى سقوط أنظمة برمّتها ظناً من الإدارة الأميركية إمكانية تمريرها بسهوله.
غداة اندلاع ما سُمّيَ «الربيع العربي» وتداعي الأحداث بشكل متسارع بدا جلياً الإرباك الذي حصل في فهم مجريات الأحداث لدى المثقفين والعامة على حدّ سواء، حيث عمّت الفوضى التي نالت من قيم الشعوب والصدمات المفتعلة خلخلت قناعات الشعوب في غياب الفكر الذي يسهم في إنتاج الوعي لتحليل الأحداث وإحالتها إلى قياس الحقائق والمصلحة الحقيقية لشعوب المنطقة.
أحداث وانْ كان لها أسبابها الموضوعية، لكن دون شك تمكنت الولايات المتحدة من صناعة أدواتها واستثمرت في الفوضى الحاصلة تمهيداً لفرض إرادتها على شعوب المنطقة لا سيما في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وهذا ما حصل وتبيّن بالفعل من خلال «صفقة القرن» التى أعلن عنها ترامب، وهو يريد من خلالها إسقاط القضية الفلسطنية بالضربة القاضية وهضم حقوق الفلسطنين، وقضم الجولان السوري المحتلّ، وتصفية حركات المقاومة في المنطقة، ونسف البنية الثقافية القائمة عليها من أجل إنهاء الصراع لصالح الكيان الصهيوني.
نعتقد أنّ المسألة لن تتوقف عند هذا الحدّ، بل ما يحصل اليوم ليس إلا المرحلة الأولى من مشروع كبير لقضم مزيد من الأراضي العربية لمصلحة الكيان الصهيوني، وبتالي إذا أردنا مواجهة هذا المشروع التوسعي لا بدّ من رسم ملمح لثقافة المواجهة والبناء، بمعنى آخر علينا العمل على إنتاج وعي عربي عالمي شعبي مقاوم تلهمه الأفكار والثقافة الإنسانية التي ترفض الظلم وقهر الشعوب وتحضّ على العدل والحق، وتستمدّ زخمها من المشتركات الإنسانية التى ترفض كلّ أشكال الإحتلال، والبناء على هذه الثقافة لتشكيل جبهة عالمية موحدة لا حدود لها في وجه الطغيان الأميركي المقيت.
إذن الرهان على بناء وحدة ثقافية عالمية مقاومة تتجاوز حدود المنطقة العربية وخلفياتها الثقافية والدينية، من أجل المواجهة بعدة جديدة وفعّالة تكون ظهيراً للمقاومة الفلسطنية والقومية والعربية التي تتعرّض لأكبر هجمة عالمية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في سبيل إسقاطها.
ويبقى من القول إنّ الصمود ليس شعاراً بل هو النموذج الحقيقي والعظيم الذي مثله أبناء شعبنا الفلسطيني لأكثر من سبعين عاماً من المقاومة. ومهما كنت ضعيفاً تستطيع أن تصرخ وترفع الصوت، ومهما كان العدو قوياً لا يستطيع إجبارك على الصمت، هذه المعادلة لا يمكن لأيّ كان كسرها…