لماذا ينجح لبنان في مقاومة التطبيع؟
} د. وفيق إبراهيم
ينجح لبنان «الضعيف» في رفض أي تطبيع مع الكيان الاسرائيلي مهما بدا تافهاً لامتلاكه جملة عناصر تفتقدها دول عربية أغنى منه.
لا يكفي التبرير بفقر هذه الدولة او حاجة اخرى الى مناعة خارجية، فكل الدول العربية تتعرّض للمؤثرات الداخلية والخارجية نفسها، التي تهز مناعتها. هناك من يصمد مقابل فئة تذهب بوقاحة نحو التطبيع، والذريعة واحدة وهي ان السلطة الفلسطينية صاحبة القضية الأساسية تقيم علاقات أمنية واقتصادية وسياسية مع الكيان، فلماذا يُلامُ رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان على اجتماعه برئيس وزراء الكيان المحتل في اوغندا؟
ولا يتلقى محمود عباس حتى الرشق بوردة ليس بحجر، وهو المتفاعل الاول مع كل قيادات الكيان الاسرائيلي، بالاضافة الى رؤساء مصر منذ السادات في 1979 حتى وريثه مبارك، وخلفه مرسي الذي كان يستهلّ رسائله الى قادة «اسرائيل» بكلمة يا «صديقي»، أما السيسي فيطبق توأمه مع الإسرائيليين في المشروع الإقليمي الاميركي وكذلك العاهل الهاشمي عبدالله الذي يمتلك بلده علاقات مع «اسرائيل» منذ تأسيسه في 1948 بشكل يصل الى حدود التحالفات التي كانت سريّة واصبحت علنية.
هذا ينسحب ايضاً على دول الخليج باستثناء الكويت بقيادة سعودية – إماراتية تعمل على تطبيق صفقة القرن وإنهاء القضية الفلسطينية وربط مساعداتها للدول العربية بضرورة التطبيع مع «اسرائيل» واستعداء ايران في اطار الراية الاميركية.
هناك ايضاً المغرب التي له علاقات نتيجة لحالة التحالف.
لماذا اذاً يعتب بعض العرب على البرهان السوداني ومنهم محمود عباس وصائب عريقات وقيادات فلسطينية من كل المستويات؟
هذا الكلام الصريح ليس دعوة للتطبيع إنما للمزيد من علاجه على قاعدة البحث عن النماذج الناجحة في مقاومته، وتعميمها، وإعادة الاعتبار اليها على مستوى التحشيد الشعبي واستيلاد آليات مكافحة لهذا التطبيع السرطاني.
هذه الطريقة تُظهر ان لبنان وسورية هما نموذجان رائدان في إجهاض كل الوان التطبيع من الإقرار الى سياسات الدول، والعراق بالطبع الى جانب اليمن وليبيا وتونس والجزائر وبلدان اخرى، لكن التركيز يذهب الى لبنان وسورية لأن المشروع التطبيعي الاسرائيلي – الاميركي سدّد في البداية على الفلسطينيين والبلدان المحاذية لفلسطين المحتلة، وهي الاردن ومصر وسورية ولبنان.
سقط منها الاردن ومصر بعلاقات كاملة ذهبت نحو تحالف عميق، فيما تمرّدت سورية على الرغم من كل المغريات التي لا تزال تتلقاها، وكذلك لبنان المحتاج الى كل انواع الدعم الخليجي والاميركي.
ما الفارق اذاً بين هذين النوذجين؟
احدهما مطبّع والثاني يرفضه الى حدود الحرب العسكرية.
لجهة سورية الذي ذهب السادات الى «اسرائيل» وتركها منفردة في مجابهتها. فكان الاميركيون يعتقدون انها لن تتأخر عن الالتحاق الى قطار المتحالفين مع «اسرائيل»، خصوصاً أن الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982 المستفيد من الصلح مع مصر، حاصرها في أضيق نقاط.
لقد صودف ان هناك تقاطعاً بين معادلتين سوريتين مركزيتين: وهما الثقافة الشعبية السورية المبنية على أساس عداء تاريخي مستمر مع «اسرائيل» مع فلسطين، اما المعادلة الثانية، فهي القيادة الوطنية الرشيدة للرئيس حافظ الأسد الذي تعامل مع تلك المراحل على اساس انها موقتة وسط ثابت وحيد هو عروبة فلسطين وسوريّتها.
كذلك فإن ابنه الرئيس الحالي بشار الاسد، بنى شبكة تحالفات مع إيران الى العراق ولبنان واليمن انتجت صوناً للقضية الفلسطينية وتحريراً لجنوب لبنان وتدميراً للمنظمات الإرهابية التي شكلت الوجه الآخر للاهداف الاسرائيلية الاميركية.
هذا ما جعل من سورية الملاذ الحامي لكل قضايا المنطقة بانياً تياراً شعبياً كبيراً فيها متسماً بالعداء البنيوي لـ»إسرائيل» وكل من يحالفها او يطبع معها، وتحوّلت الشام مركزاً طليعياً للدفاع عن لبنان والعراق وسورية وفلسطين.
لجهة لبنان، فإن لديه تراثاً تاريخياً في مقاومة «اسرائيل» منذ سبعينيات القرن الماضي بالشكلين العسكري والثقافي.
هذه الوضعية ليست ادعاء بأن الدولة اللبنانية معادية لـ»اسرائيل»، فمنذ تأسيس الدولة اللبنانية في 1948 كانت الطبقة السياسية اللبنانية موالية للغرب، وتقلد نهج الدول الخليجية وأحياناً مصر، وكان الكثير من القيادات اللبنانية ينحاز الى «اسرائيل»، خصوصاً في مرحلة الحلف الثلاثي (كتائب – قوات – أحرار) في السبعينيات حتى انه أيد الاجتياح الاسرائيلي للبنان في 1982 مشاركاً فيه بوحدات من ميليشياته، لكن ظاهر الدولة لم يكن مطبعاً ومترقباً تشجيعاً عربياً بهذا الخصوص وانهياراً في توازنات القوى الداخلية.
كانت القوى الوطنية اللبنانية تبني في مقابل السلطة نظام قوة جديداً بالتعاون مع المنظمات الفلسطينية العاملة على أراضي لبنان.
لكن انسحاب الفلسطينيين من لبنان بعد 1982 دفع الدولة اللبنانية نحو التقدم لإقامة علاقات مع العدو، ولم تفلح لتحالفات قوية بين سورية والقوى الوطنية تعززت مع حزب الله الذي أعلن مشروعه المقاوم.
فأصبحت هناك قوتان تتنازعان موضوع التطبيع في لبنان: قوى الدولة اللاهثة في تلك المرحلة نحو التطبيع وتحالف حزب الله والقوى الوطنية المصرة على إجهاضه، وبالفعل تمكن الحزب وحلفاؤه من تحرير جنوب لبنان من العدو الإسرائيلي بعد تحرير العاصمة نفسها ومسجلين هزيمة أخرى لـ»اسرائيل» في 2006.
أدى هذا الوضع الى ولادة نظام قوة جديد لجم قوى التطبيع اللبنانية، مانعاً من الاسترسال في احلام التطبيع مصرّاً على تطبيق القانون بمعاقبة كل من يطبع مع اسرائيلي مدني او سياسي وعسكري مانعاً اي تبادل اقتصادي مهما كان محدوداً.
الدليل على هذا الأمر موجود في بنية الدولة اللبنانية المركبة من حزب المستقبل الموالي للخليج والغرب والقوات المحسوبة على الغرب وشريكة «اسرائيل» في اجتياح لبنان في 1982، والحزب الاشتراكي الذي انتقل من موقع مجابهة «اسرائيل» الى موقع حزب القوات، فإذا كانت السعودية حليفة هذه القوى مع التطبيع وصفقة القرن، فلماذا لا تذهب هذه القوى اللبنانية المحسوبة عليها نحو التطبيع؟
إنها موازين القوى الراجحة للخط الوطني المتحالف مع رئاسة الجمهورية الحالية وحزبها التيار الوطني الحر الذي يجعل من لبنان نموذجاً في مكافحة ادوات الضغط الاميركية – الخليجية الساعية الى فرض كل أنواع التطبيع.
إن تعميم النوذج اللبناني – السوري كفيل ليس فقط بإيقاف دورة التطبيع إنما باستعادة كل الذين ذهبوا إليه، وإنقاذهم من لعنة التاريخ والشعوب.