الأزمة الماليّة والعهد بين الظلم والافتراء وشروط المعالجة
الدكتور فريد البستاني _
عندما تسلّم الرئيس العماد ميشال عون مقاليد الرئاسة عام 2016 كان المنتدى الاقتصادي الدولي يصنّف لبنان من الدول الأسوأ في العالم في حال المديونية التي بلغت يومها 139% من الناتج الوطني، وحلّ لبنان بين الدول الخمس عشرة الأشدّ سوءاً في وضعها بين الدول العربية على مستوى التراجع الاقتصادي والأعباء المالية، وكانت قيمة الدين العام تقارب الـ 74 مليار دولار، ونسبة النمو أقلّ من 1%، وعلى أيّ عاقل أو منصف عندما يتناول الأوضاع المالية الصعبة التي يمرّ بها لبنان اليوم تذكّر ذلك، والانطلاق من السؤال حول كيفية بلوغ هذه المرحلة قبل أن يبدأ عهد العماد ميشال عون الرئاسي، ومن ثمّ السؤال حول أمرين، الأول حجم التدهور الإضافي الذي بلغته الأزمة المالية خلال السنوات الثلاث التي مضت من العهد قياساً بما كان قبلها، وهل كان ممكناً تفاديها، وحجم الجهود المبذولة من رئيس الجمهورية لتفادي وقوع الأسوأ اقتصادياً ومالياً، وحجم قدرته بموجب صلاحياته الرئاسية على تصحيح جذري للوضعين المالي والاقتصادي.
سجل نمو الدين العام نسباً سنوية أقلّ من تلك التي كان يسجلها في السنوات التي سبقت عهد الرئيس عون، فقد بلغت نسبة نمو الدين في سنوات العهد 15% ليكون إجمالي الدين قرابة 86 مليار دولار، هي نتاج فوائد الدين السابق المتراكم فقط، بينما بلغت نسبة نمو الدين في السنوات الثلاث التي سبقتها 2013 -2016 20% فارتفعت كتلة الدين معها من 62 مليار إلى 74 مليار دولار. وفي المقابل من المعلوم أنّ قرابة سنتين من ثلاث سنوات من عمر العهد جرى استهلاكها في تشكيل حكومتين وإقرار قانون انتخابات وإجراء الانتخابات النيابية، بحيث لم يزد مجموع المدة التي كان للبنان خلالها حكومة من السنوات الثلاث عن سنة واحدة كان نصفها مكرّساً لإقرار قانون الانتخابات وإجراء الانتخابات، وفي مرحلة وجود الحكومة، كان رئيس الجمهورية معنياً بإدارة الدولة بروح التوافق الوطني، واحترام ما يقرّره الدستور لجهة صلاحيّة رئيس الحكومة في إدارة حكومته.
بالعودة إلى الأزمة المالية وجذورها، هل يمكن تجاهل كونها نتاج سياسة مالية لم يكن للرئيس ميشال عون يد في وضعها، بل كان الذين يريدون تحميل العهد مسؤولية التدهور المالي هم أصحاب الحلّ والربط في الحكومة ومجلس النواب، حيث تمّ منذ التسعينيات التصديق على هذه السياسات المالية التي قامت على اعتبار حماية سعر صرف الليرة كإنجاز معنوي لأصحاب هذه السياسات ورموزها شأناً يعلو على مراقبة حجم الدين اللازم لتحقيق ذلك، ودرجة الانكماش الاقتصادي التي تتسبّب بها هذه السياسات، ودرجة تفشي الفساد في إنفاق المال الناتج عن الاستدانة، وحجم الاختلال في توزيع الثروة والاستثمار بين القطاعات الاقتصادية وعمليات المضاربة المالية التي يشكل سوق السندات ساحتها الرئيسية بين مصرف لبنان والمصارف التجارية. وهذه السياسات هي التي ندفع ثمن اعتمادها اليوم، ويعرف الخبراء أنّ إعادة النظر بهذه السياسات ليست قراراً إجرائياً أو إدارياً يتخذه مسؤول ولو كان رئيساً للجمهورية، بل هي عملية تحوّل كبيرة تحتاج إلى تكامل وتعاون في مؤسسات الدولة الدستورية والمالية، وهذا ما لم يكن متاحاً في ظلّ كلّ التحضيرات التي تمّت لمؤتمر “سيدر” ذاتها بالطريقة السابقة للاستدانة، وتحت الأولويات ذاتها التي يتقدّمها تثبيت سعر الصرف، فيما جهد رئيس الجمهورية لإعداد خطة إنقاذية للاقتصاد عبر الاستعانة بمجموعة “ماكنزي”، تشتغل على وجهة مختلفة جذرياً هي إنعاش القطاعات الإنتاجية وتطوير معدّلات نموّها، لكنها لم تجد طريقها لتتحوّل إلى سياسات عملية، رغم الكلام الإيجابي الذي قيل عنها، ربما تمسّكاً من أصحاب السياسات القديمة التي تسبّبت بالأزمة بقديمهم، وهو ما يؤمل مع الحكومة الجديدة أن يتغيّر.
الحملة على العهد من باب الأزمة المالية ليس مجرد ظلم بل هي الافتراء عينه، ليس من زاوية عدم مسؤولية العهد عن السياسات المالية التي خرّبت الاقتصاد وتسبّبت ببلوغ حافة الانهيار وحسب، بل حتى في محدودية القدرة على تعديلها منفرداً، ذلك أنّ الطريقة الوحيدة التي تتيح له ذلك هي الطريقة الانقلابية على الشركاء الدستوريين في الدولة، ولا نعتقد أنّ أصحاب الحملة يقصدون ذلك، لأنهم هم عملياً هؤلاء الشركاء…
*نائب في مجلس النواب اللبناني.