التحدّي الأكبر: استعادة الانتفاضة هويّتها ووحدتها وفعاليتها
د. عصام نعمان _
يقول أصدقاء الانتفاضة الشعبية إنها تتعرّض لحملة شديدة من أهل السلطة تهدف الى تفكيكها وتحويلها مجموعاتٍ غير فاعلة وبلا حصانة شعبية، وإنّ الغاية المتوخاة إعادتها الى ما قبل 17 تشرين الاول/ أكتوبر، أيّ الى ما قبل انطلاقها.
قادة الانتفاضة يستشعرون، على ما يبدو، خطورة الحملة وغايتها ويستعدّون لمواجهتها برصّ الصفوف، وتحشيد الأنصار، وإعلان بيان وزاري بديل من بيان “حكومة مواجهة التحديات”، وسدّ الشوارع والمنافذ المؤدية إلى مجلس النواب بغية تعطيل الجلسة المخصّصة لمنحها الثقة.
ما يرمي اليه أهل السلطة معروف ومنتظَر. هم رفضوا الانتفاضة شكلاً وموضوعاً، وشكّكوا بمراميها والقائمين بها، وحاولوا تطويقها بطرائق شتى، وادّعوا تبنّي بعض شعاراتها، وأنكروا صحة كلّ الاتهامات الموجّهة اليهم، ونجحوا في تأليف حكومة ليست، ظاهراً، من أصولهم وفروعهم.
أهلُ الانتفاضة أصابوا بالمسارعة إلى ترميمها ودعم ركائزها وتوضيح مسوّغاتها بعد تباطؤ وتردّدٍ طويلين، لكنهم أخطأوا بتصويبهم على الخصوم الثانويين، وفي اعتماد وسائل في المواجهة تساعد الخصوم الأساسيين على محاصرتهم وتطويقهم ومحاولة تنفيس فعاليتهم. فحكومة حسان دياب ليست الخصم الرئيس، والانتصار عليها بالحؤول دون منحها ثقة برلمانٍ لا يثق به أهل الانتفاضة أصلاً، لا يضيف الى رصيدها الشيء الكثير.
المطلوب من الانتفاضة ترفيع أهدافها وتفعيل أساليب نشاطها، ومراكمة مكاسبها وتوظيفها في مهمة تاريخية عليا هي إجلاء نظام المحاصصة الطائفية عن سدة السلطة والقرار بالطرق السلميّة وصولاً الى إرساء قواعد النظام النقيض: الدولة المدنية الديمقراطية.
كيف؟
بالعمل الشعبي الدؤوب والتركيز على تحقيق مهمات مرحلية ثلاث: استعادة الانتفاضة هويّتها وترسيخ وحدتها وتصعيد فعاليتها.
لا جدال في أنّ الانتفاضة فقدت، او كادت، هويتها من حيث هي حركة وطنية جامعة عابرة للمناطق والطوائف والمشارب. كانت، بهذا المعنى، ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ لبنان السياسي المعاصر. ولأنها كانت كذلك، وتفادياً لاستمرارها بهذا المنحى والمراس، سعى أهل النظام الطائفي، لا سيما غلاتهم في السلطة، وبمؤازرة من أصدقائهم في الخارج، الى تفخيخ الانتفاضة بعناصر وجماعات وشعارات ترمي إلى التفرقة والشرذمة والاحتراب. ولعلّ محاولة الإيقاع بين أهل جونيه وأهل طرابلس أخيراً خير مثال في هذا السياق.
إنّ مطاردة نواب ووزراء، حاليين وسابقين، في المطاعم والأمكنة العامة و”بهدلتهم” لا يخدم أهداف الانتفاضة بل يعطي الرأي العام انطباعاً خاطئاً بأنّ هؤلاء هم وحدهم أهل النظام المراد هدمه وإجلاء أركانه. كما أنه يسمح لأهل السلطة باستخدام قوى الأمن ضدّ أهل الانتفاضة بشكلٍ قمعي سافر بدعوى المحافظة على الأمن والاستقرار واحترام القانون.
يجب الحرص على الهوية الوطنية للانتفاضة بما هي أمضى سلاح في مواجهة دعاة الطائفية ومحترفي استعمالها لزرع الفتن والتفرقة والحرب الأهليّة.
الى ذلك، يقتضي الحرص على وحدة الانتفاضة بالتنسيق الدؤوب بين أطرها القيادية، وفي طرح شعاراتها وتركيزها على هدم نظام المحاصصة الطائفية بكلّ مؤسّساته وممارساته ومسؤوليه الثابت ضلوعهم في الفساد ونهب الأموال العامة وصرف النفوذ.
إنّ الحرص على هاتين الفضيلتين – الهوية الوطنية ووحدة الانتفاضة – من شأنه توليد الفعالية ومضاعفتها وبالتالي توليد الثقة في الأوساط الشعبية كافة بأنه باتت لديها القدرات الكفيلة بتحقيق مكاسب وإنجازات لمصلحة الفئات المقهورة والمهمّشة، وإنّ الرهان عليها والانخراط في أنشطتها أصبحا مجزيين.
في هذا السياق، يجب الحرص على اعتماد الأنشطة المفيدة ومحاذرة الانزلاق الى أعمال وعمليات تخدم أهل السلطة في سعيهم لاستعمالها، بذرائع شتى، للنيل من الانتفاضة وأهلها. لعلّ أهمّ ما يجب تفاديه في مجابهة أهل السلطة اللجوء إلى العنف والسلاح. ذلك أن لا تكافؤ في وسائل القوة بين الفئات الشعبيّة وقوى الأمن ما يؤدّي، عند المواجهة، إلى نجاح قوى السلطة في ممارسة القمع والقهر والتصفية. لقد بات واضحاً أنّ أهل السلطة يبتغون إخراج جمهور الانتفاضة من الشارع بدعوى صون الأمن والاستقرار ما يستدعي مجانبة المتظاهرين اللجوء الى العنف والسلاح لتفادي إعطاء جلاوزة السلطة الفرصة والذريعة لممارسة القمع والقهر.
يتردّد في بعض وسائل الإعلام انّ أهل الانتفاضة يخطّطون لنشر الحشود في محيط مجلس النواب والمنافذ المؤدّية إليه لمنع النواب من الوصول إليه وبالتالي تعطيل جلسة الثقة الموعودة. إنّ أولى وأبسط قواعد العمل الشعبي وحمايته تقضي بعدم إعطاء الخصوم والأعداء فرصة للضرب في خط التوقعات. فالاحتشاد في أمكنة معينة، مثلاً، يتيح لأهل السلطة ان تتخذ مسبقاً من الإجراءات الأمنية ما يمكّنهم من التخطيط والتحوّط والحشد والتنظيم والإنتشار وبالتالي تعطيل مرامي المتظاهرين والثوّار.
إذا كان أهل الانتفاضة، لا سيما قادتها، مؤمنين حقاً بأنّ أهدافها ومهامها الأساسية في هذه المرحلة هي استعادة هويتها الوطنية ووحدتها السياسية والتنظيمية وتأمين أعلى مستويات الفعالية في مواجهة أهل السلطة، فإنّ ذلك يتحقق على أفضل ما يكون ليس بالاصطدام المباشر بقوى أمن السلطة بل بنشر حشود واسعة كاسحة في ساحات معينة في كلٍّ من بيروت وطرابلس وصيدا وجونيه والنبطية وصور وزحله وبعلبك… حشود واسعة كاسحة جامعة تجهر بحقيقة ساطعة هي انّ الانتفاضة الشعبية عادت كما بدأت: ظاهرة وطنية غير مسبوقة، عابرة للمناطق والطوائف والمشارب، وانّ لها من الثقل البشري والسياسي والتصميم والمثابرة ما يمكّنها، عاجلاً او آجلاً، من محاصرة أهل السلطة في مقارهم ومنازلهم وإكراههم على تقديم التنازلات السياسية المطلوبة، والتسليم تالياً بضرورة صوغ الإصلاحات المرتجاة في صيغ قانونية واضحة ليُصار إلى إقرارها في استفتاء شعبي عام.
بذلك يطوي اللبنانيون صفحة من تاريخهم غير مجيدة ويفتحون صفحة جديدة عنوانها الجمهورية الثالثة…
_ وزير سابق