الإيقاع الداخليّ في الومضة
} أمين الذيب*
أن يتصدّى صالون الأدب الوجيز لمسألة الإيقاع في الومضة، يشكّل بحدِّ ذاته حالة بالغة الحساسيّة النقديّة، خاصّة أن المُلتقى يعتبر ذلك خطوة مُتقدمة في مسألتي التجديد القائم على التكثيف والتجاوز، والإيجاز القائم على الاتساع الداخلي في اللغة وطاقة المفردة والإيقاع الداخلي، وكسر أنماط الحواس، إضافة للازمة الإدهاش في النصّ. الومضات موضوع اليوم تستدعي إلقاء نظرة فاحصة على مسألة الإيقاع والرؤى الجديدة على ضوء محاولة ابتكار زمن أدبي جديد، يتجاوز المفاهيم النقديّة التي نشأت لتوائم زمن الحداثة الشعريّة، وما بعد الحداثة لمُحاكاة زمن الأدب الوجيز.
لم ينشأ أي اختلال في منظومة الإيقاع في الأدب العربي، الى أن ظهرت قصيدة التفعيلة بداية الخمسينيات وتلتها القصيدة النثرية مُتجاوزة الإيقاع الخارجي – الخليلي، ومرتكزة على الإيقاع الداخلي للنصّ الشعري. وهذا ما ساهم في خلق إشكالية، حيث ذهب المُغالون الى اعتبار الإيقاع الداخلي مُصطلحاً وافداً لا علاقة للأدب العربي به, بينما رأى التجديديون فيه مساحة تُتيح الابتكار، في الوقت الذي ميّز فيه العرب بين الإيقاع والنظم، لذا نجد إذا نظرنا للإيقاع على أنه بُنية نظميّة، ستطالعنا تقنيّاًت نظام المقاطع أي الإيقاع الكمّي، والإيقاع الكيفي وهو يقوم على النَّبْر والتنغيم الإيقاعي في الجُمل، وهذا الإيقاع الخارجي ببُنيته التركيبية على البحور الخليليّة.
تختلف النظرة الى مفهوم الإيقاع ذي البُنية البلاغيّة الذي تتمظهر فيه حالة من حالات الإيقاع الداخلي لكون الإيقاع خاصيّة بيّنة من خصائص اللغة، نثريّة كانت أم شعريّة، كالإيقاع الصوتيّ لناحية الجناس والتكرار، والإيقاع الدلاليّ كالطِباق والتقديم.
والتأخير النحويّ، هذا يضعنا في مواجهة العديد من النظريّات النقديّة السائدة التي تعتبر أن الإيقاع الداخليّ هو التجانس بين الحروف في الكلمة، أو انسجام الكلمات في الجملة، بينما هو يتشكّل من مجموعة عناصر ليس آخرها التضاد والتنافر التي باتت تلبي حاجات النص الشعريّ الحديث وإيقاعه الداخلي.
مما لا شكَّ فيه أن الحداثة ابتكرت هندسة موسيقيّة مُغايرة، تقوم على إيقاع الجُملة وعلائق الأصوات والمعاني والصور، وطاقة المُفردة الإيحائيّة وتردُداتها الدلاليّة، حيث يبرز نظام الحركة وطرائق تفاعل العلاقة الضمنيّة المكنونة التي تشكل إيقاع النص الداخلي، المُتصل باللغة والصورة والرمز، ببنائيّة شديدة التعقيد والجمال، أنتجها قاطبة التكثيف وخصائصه كعامل تفجير لغويّ متعدد الدلالات والأبعاد، لاشتماله على مستويات إيقاعيّة خفيّة، منها ذات طابع صوتي ومنها ما يتصل بالاتساع الداخلي في اللغة، وقد حققت النصوص التجاوزيّة أقصى درجات الاستفادة من الرؤى والظلال والإيحاءات والتصويت، وكلّ هذا يشكّل نقطة الارتكاز في تجاوز السياق السائد وابتكار هويّة تنمو وتتوالد في مفهومَي الموسيقى والإيقاع.
في هذا السياق المعرفيّ النقديّ ننظر الى الومضات الأربع لدراسة الإيقاع الداخلي في النصوص موضوع هذه الورشة النقديّة.
النصّ الأول:
كلّما تهدّم ركن في بيتها
رتقته بجلدها
فصارت… حجرا
هذا النصّ الجميل الشديد التكثيف، يستمدُّ إيقاعه المُركّب من جملة عناصر، اللغة، التكثيف، المعنى، البلاغة، الصورة العامّة أيّ المشهديّة، الدلالات. استطاع الشاعر بتسع كلمات أن يُدهشَنا بإيقاع متوالد أهم عناصره التكثيف حيث حقّق التناسق والانفجار الدلاليّ لطاقة المفردة والبلاغة، رتقته بجلدها، وما تكتنزه هذه الجملة من تراكيب وأبعاد، كما حققَ الإدهاش بـ صارت حجراً، تجدر الملاحظة في هذه الومضة الى تنامي الأفعال واشتراكها البيّن في جماليّة الإيقاع. وهذا ما أشرتُ إليه بكسر الحواس والاتساع الداخلي في اللغة.
النصّ الثاني:
على شاطئ البحر الميّت
بين الصدفات المُتناثرة
مطمورة في الرمل
قطعة وطن
لا زالت هذه الومضة مُلتبسة في بُنيتها وتركيبها، بعيداً عن الإيقاع السياقي والموسيقي، أحياناً أراها هايكو مُعدّلة، وحيناً توقيعة على غرار توقيعات عز الدين المناصرة، إن ضعف المقوّمات الإيقاعيّة، لا يلغي جماليّة الصورة ودلالاتها، وأقصد البلاغة والإدهاش واللغة وطاقة المفردة، مما جعل السرديّة طاغية.
النصّ الثالث:
طق طق طق
باب القلب مفتوح وما دخلت
مرّ الطرق بالعمر
فقط عطرُكِ دلّني الى حيث أنتِ
فكان القبر
لكَوْني لا أكتفي بأنَّ تجانس حرفين أو جملتين يشكلان إيقاعاً، وقد مهّدتُ في المُقدمة الى المراتب المتنوِّعة التي تُؤدّي الى ثورة الإيقاع الداخلي في النصّ أي نصّ بلاغيّاً كان أم نثريّاً، أرى أنه في أيّ ومضة، فلا بُدَّ أن تتوافر كتلة من العناصر هي، الإيحاء، البُعد التخيُليّ التشاركي، طاقة المُفردة، الاتساع الداخلي في اللغة، الإيقاع الداخلي، الرؤيا، الدائرة المُتشظيّة.
النصّ الرابع:
رُغم كُل هذا الشوك!! ما زالت وجهتُكِ نحوه
أياااا …. بوصلة الشوق
تندرجُ هذه الومضة في سياق سابِقَتيْها ذاته، وينطبق عليها التوصيف النقديّ ذاته. وهذا لا ينفي جماليّة النصوص ودلالاتها.
أود أن أٌضيف هنا أن الإبداع لا يتأتّى إلا من الكتابة الدائمة والمُستمرّة. فالكتابة فعل ثوري دائم بأبعاده كافة، كما أن النقد الأدبي العلمي الموضوعي، هو أكثر من حاجة وضرورة، فلا يمكن لأدب أن ينمو ويُبدع خارج سلطة النقد، حيث بات الفكر الفلسفي النقدي، والذي لم ينشأ كحيثيّة مُتأصلة ومُتكاملة في واقعنا الأدبي حتى الآن، جُلَّ ما وصل إلينا هو سياقات وأفكار مُعظمها تأثّر بمدارس النقديّة الغربيّة، محاولاً التسويّة بينها وبين أدبنا مما أحدث خللاً بنيويّاً أنتج هذه الأزمات الجوهريّة في الأدب العربي، بخاصّة الشعر، لذا ننظر اليها على أنها مسألة حياة أو موت لأدبنا، فالاعتماد على الفكر النقدي الفلسفي الغربي أضحى حالة خطيرة تجب مواجهتَها من خلال ابتكار زمن أدبيّ جديد يقوم على منطلقات فكريّة فلسفيّة نابعة من خصائصنا الحضاريّة والثقافيّة. وهذا ما ينجزه ملتقى الأدب الوجيز من خلال مؤتمراته، وندواته في تونس ولبنان وسورية وفي بلدان المشرق والمغرب العربيين.
*ناقد وشاعر ومؤسس ملتقى الأدب الوجيز.