الحريريّة السياسيّة انتهت كمشروع سياسيّ منذ عقد ونصف؟
} د. وفيق إبراهيم
يزعم قادة حزب المستقبل من آل الحريري أن الحريرية السياسية مستمرة في صعودها وغير قابلة للاضمحلال تحت أي ظروف.
بما يفرض البحث عن تعريف لهذه التجربة والتدقيق في مساراتها وتحديد وضعها الحالي بالمقارنة مع المراحل الاولى من تأسيسها.
لقد ابتدأت هذه التجربة مع ملهمها رجل الأعمال المرحوم رفيق الحريري الذي كان يعمل في السعودية وعلى تماس في مشاريع كثيرة مع سياسيّين من آل سعود العائلة المالكة.
وابتدأت إطلالاته اللبنانية على مستوى توزيع منح تعليم على الطلاب اللبنانيين منذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي.
فتمكّن عبر السعودية من انتزاع دور سياسي لبناني بالتوافق مع النفوذ السوري في لبنان والرعاية الأميركية، ما منحه قوة ثلاثية صادمة تمكنت فور تقلدها رئاسة الوزراء في 1992 من احتواء المؤسسات الدينية المسيحية والاسلامية والدرزية مسيطراً أيضاً على كامل القوى السياسية الأساسية والمتنوّعة.
وسرعان ما تبين ان سياسات الحريري ابتدأت بالسيطرة على الجناحين الديني والمدني من الطائفة السنية عبر توزيع الاموال على جمعيات العائلات وقادة الرأي مع تحشيد ديني غير مسبوق، يتخذ من الوطنية شكلاً والتسعير المذهبي مضموناً وتمثيل السعودية هدفاً بنيوياً والاتكاء على الأميركيين والفرنسيين في الصراع الدولي.
أما اقتصادياً فارتكزت سياسته على أسلوب الإنماء بالدين على قطاعات غير منتجة وفي بلد لا إنتاج فيه، وأجاب علناً عندما سأله اختصاصيون اقتصاديون كيف يدفع لبنان هذه الديون فأجابه بأن السلام العربي الإسرائيلي آت وللبنان حصة مباشرة من أكلافه المباشرة وأخرى غير مباشرة من السياحة والاستيراد والاصطياف والترانزيت مع الخليج.
لقد لجأ الحريري للسيطرة على «السياسة في لبنان» الى أسلوب الإمساك بزعماء الطوائف من خلال فتح «المال العام» أمامهم وإرضائهم بالتعيينات مستفيداً من النفوذ الأميركي والغربي في الرهبانيات المحلية، ولعل هذا من اسباب تعلق البطريرك الراحل صفير به.
هذه الجهود التي بذلها وطّدت له ما يشبه سيطرة كاملة على إمارة لبنانية أصبح اسمها مرتبطاً به.
انما ما رفع من منسوب سيطرته هو نجاحه في الإمساك الكامل من 1992 وحى 2005 على الإدارة السياسية العسكرية للسوريين في لبنان مع نصب علاقة هامة له مع المسؤولين في سورية.
بذلك أصبح رفيق الحريري سلطاناً غير متوّج يحكم لبنان بتأييد خليجي – سوري – أميركي – أوروبي مع تأييد كامل لزعماء لبنان السياسيين والكهنوتيين والاقتصاديين. فالمصارف لم تشهد في عهده ازدهاراً مماثلاً، يكفي أنه سمح لها بتجميع ودائع اللبنانيين بفوائد لم تصل الى الستة في المئة وإعادة تسليفها للدولة على شكل سندات خزينة بفوائد راوحت بين الستين والخمسين في المئة.
هذه هي إمبراطورية الحريرية اللبنانية، إمساك كامل بالطائفة السنية بحيث ان لا صوت إلا صوته ولا صور إلا صوره تعمّ المدن والقرى ولا ابتهالات في المساجد إلا لحكمته وزعامته.
كما امتلك شبكة تحالفات سياسية عند أحزاب القوات والكتائب والوطنيين الأحرار وحتى التيار الوطني الحر مع إمكانات الكنيسة المارونية والمذاهب الأخرى.
وسجل إمكانات هائلة في ضبط وليد جنبلاط متعاوناً الى حدود عميقة مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري جامعاً داخل عباءته كل القيادات الطوائفية من الصف الثاني من 14 آذار والمستقلين، حتى وصل الى مرحلة أصبح له الحق فيها بتسمية نصف وزرائه من المسيحيين والشيعة والدروز بالإضافة الى احتكار التمثيل السني في التشريع والتنفيذ والتعيينات.
لكن حزب الله منفرداً سجل حالة خاصة، التزمت بموازين القوى التي كانت تفرض على المرحوم أبي بهاء الاستشارة المسبقة للحزب والابتعاد عن كل ما يضايقه بموضوع الصراع المفتوح مع «إسرائيل» وبعض الأمور الداخلية المرتبطة بحركته.
فبدا الحريري وكأنه مؤيد لقتال «اسرائيل» في حين ان التزاماته الخارجية وتحالفاته الداخلية كانت معادية لحزب الله في صراعه مع «اسرائيل» وتحالفاته العربية والإقليمية.
ما يهم هنا أن الحريرية أصبحت مع تطوّر قواها مشروعاً سياسياً له اساس مذهبي بأبعاد خليجية وأميركية وتحالفات لبنانية عميقة مع احزاب طائفية معادية لحزب الله.
لقد واصل ورثة الرئيس الحريري تنفيذ سياساته الاقتصادية والسياسية في لبنان مع تموضعها الخارجي، الى ان سجل حزب الله نصراً ثانياً على اسرائيل في 2006 مؤدياً دوراً اقليمياً كبيراً منذ 2011، ففيما كان حزب المستقبل وبعض الأحزاب المسيحية في حركة 14 آذار يذهبون الى عرسال والحدود الشمالية لمقابلة الإرهابيين وتأييدهم ودعمهم بالمال والطعام كان حزب الله يقاتلهم الى جانب الجيش اللبناني بكل قواه.
هذا أنتج موازنات قوة جديدة، انتصبت على قاعدة القضاء على الإرهاب. وبدلت من التقسيم السياسي الداخلي بشكل لافت أولاً داخل الطائفة السنية التي يربط قادتها السياسيون والروحيون ونتائج عميقة مع السعودية، نجح اثنا عشر نائباً في الانتخابات بمواجهة مرشحين للحريرية، وهذا تطوّر ضخم في بلد كلبنان يؤجج دستوره الطائفية في لبنان مفرقاً بين المواطنين على اسس مذهبية.
كما ان الطوائف الإسلامية الاخرى وخصوصاً الدروز اصبحت تتصل بالمرجعيات الإقليمية بشكل مباشر وليس من خلال الحريرية السياسية.
أما الشيعة فنجحت انتصارات حزب الله في ضبط حركة قياداتهم ضمن مبدأ الضرورة الوطنية واولوية الدفاع ضد «اسرائيل».
اما المسيحيون فتحول التيار الوطني الحر منافساً للحريرية ساحباً أكثر من نصف المسيحيين من دائرة التأثير الحريري، وإذا كان احزاب القوات والكتائب والاحرار لا تزال تصطف الى جانب الحريرية، لكنها اصبحت تمتلك مشاريع خاصة بها ولها اتصالاتها المباشرة بالخليج والأميركيين والأوروبيين.
إقليمياً ادى تراجع الدور الاقليمي السعودي الى اصابة الاحزاب الموالية له في لبنان بوهن شديد الى حدود العطب، وخصوصاً حزب المستقبل.
يمكن أيضاً الإضافة بأن المال العام الذي كان رفيق الحريري يمسك بحركة توزيعه على زعماء الطوائف ما عاد كذلك، فزعماء الطوائف بما فيهم قيادات المستقبل أصبحوا يشرفون على هذا التوزيع.
هناك نقطة إضافية أسهمت في تراجع الحريريّة وهي انتصار سورية على الإرهاب والمعارضات المدعومة من السعودية «وليّة» أمر الحريريّة.
بما يدفع الى الاستنتاج أن الحركة الحريريّة ذاهبة ايضاً نحو انهيار كامل لتغيير الموازين في الإقليم وكترجمة لصعود سوري إيراني، وبالتالي لحزب الله الى جانب تضعضع الدور الحريري في السيطرة على المال العام والتعيينات من دون نسيان صعود قوى سنيّة منافسة أصبحت وازنة في مذهبها.
هذه هي العوامل الأساسية التي تكشف أن الحريرية السياسية مسألة عابرة دخلت في طور الاحتضار، ما يجعلها تهبط من مشروع لبناني كبير الى مجرد طمع بمقاعد نيابية في مناطق عدة، ويبقى حزب الله الطرف شبه الوحيد الحائز على رتبة مشروع وطني بآفاق إقليميّة الى جانب محاولات من أطراف أخرى لا تزال متعسّرة.
ويبقى الامل كبيراً على القوى الوطنية في وضع لبنان في سياق ينقذ شعبه من الطائفية وأنصارها والخارج الذي يتبناها.