الرئيس برّي يُجدِّدُ الانتفاضة من عمّان إلى ساحة النجمة!
} محمد حميّة
أشبه بانتفاضة فلسطينيّة – عربيّة – إسلاميّة، كانت كلمة الرئيس نبيه بري في مؤتمر اتحاد البرلمان العربي في عمان الجمعة الماضي رفضاً للمشروع القديم الجديد بتصفية القضية الأم للعرب والمسلمين، فبدا خطاب رئيس مجلس النواب اللبناني نجم المؤتمر وصرخته المدوّية وشعلته المضيئة التي حجبت عتمة تخاذل وتطبيع بعض العرب والمسلمين.
لقد استشعر الرئيس السابق للبرلمان العربي ممالأة عربية للأميركيين والإسرائيليين إزاء صفقة القرن، فأطلق موقفاً متجدّداً كي يلجم اندفاعة بعض الأنظمة نحو «البصم» على مشروع التصفية محاولاً تعزيز ما تبقى من جبهة صمود عربية – إقليمية للتصدي للصفقة وإبقاء القضية الفلسطينية حية في رحاب الشعوب وإن تواطأت الحكومات والأنظمة.
وبينما كان رئيس حركة أمل يُقارع في عمان على خطوط جبهة الإقليم، كانت عيونه شاخصة الى بيروت وقلبه يخفق قلقاً على مصير حكومة تتلاطمها عواصف المنطقة وتنهال عليها السهام السياسية الداخلية من كل حدب وصوب، فرئيس البرلمان بخبرته في إدارة الجلسات النيابية ومعرفته الدقيقة العميقة بمصالح الأحزاب واتجاهاتها، أيقن بأن جمع الأضداد والتناقضات تحت قبة البرلمان وعلى تخوم شارع مُلتهب تقوده جهات متعدّدة وتوجّه لدى بعض الجهات الخارجية لإجهاض الجلسة بذريعة عجز النواب من الوصول الى المجلس، وبالتالي نزع الغطاء السياسي والنيابي عن الحكومة، مهمةٌ لن تكون سهلة ومحفوفة بالمخاطر.
وما ضاعف من حجم المسؤوليّة الملقاة على كاهل «حارس البرلمان» أنّه الجهة الوحيدة القادرة على لمّ الشمل النيابي والوطني بعد تشرذمه وتشظّيه عقب زلزال 17 تشرين الماضي وما تلاه من انفراط عقد تحالفات حكوميّة وسقوط تسويات سياسية، وإذ وجد «أبو مصطفى» نفسه وحيداً في ساحة النزال متحوّلاً الى خط الدفاع الأخير عن الحكومة وبالتالي لاستمرار عمل المؤسسات.
ما دفع اللبنانيين جميعاً مواطنين وسياسيين واقتصاديين ومستثمرين يجمعون على سؤال واحد: ماذا لو لم يكن بري في رئاسة المجلس. هل كان الفراغ الدستوري والفوضى الأمنية والفتنة الأهلية والكارثة الاقتصاديّة مصير محتوم؟
وفور عودته من مهمته الفلسطينية والعربية والقومية، بدأ «سيد عين التينة» بإعداد العدّة لمعركة ساحة النجمة، فكان نجم الساحة بلا منازع، فالحنكة والحكمة في الإعداد والجمع والإخراج أبهر النواب الموجودين حلفاء ومعارضين، فشعر وزراء الحكومة ورئيسها وكل اللبنانيين بأن رئيس السلطة التشريعية أنقذ الوزارة في أربعة امتحانات عسيرة: التكليف والتأليف والنصاب والثقة وبالتالي أنقذ آخر معاقل الدولة وانتظام عمل المؤسسات الدستورية.
ورغم صعوبة مرحلتي التكليف والتأليف، فإن حراجة الموقف كمنت في تأمين نصاب الجلسة في ظل محاولات جهات سياسية محلية وخارجية لفرط الجلسة لأهداف مختلفة، فحشدت الرئاسة الثانية مونتها وتحالفاتها الوطنية وضغوطها لتوفير النصاب مع إصرارها على تأمين مناخ سياسي وشعبي مؤاتٍ لعقد الجلسة، ووقفت في وجه محاولات كشف الحكومة خشية أن تذهب الى الاستقالة وبالتالي إعادة استحقاقات الاستشارات والتكليف والتأليف والثقة ما يأخذ لبنان حكماً الى الانهيار. لذلك تولى الرئيس التفاوض مع رئيس الاشتراكي وليد جنبلاط لتأمين حضور كتلته ومع الرئيس سعد الحريري لـ»استدراج» قسم من كتلته الى الساحة، وأمّن تماسك فريق 8 آذار بغالبيته رغم بعض الانكشافات البسيطة.
وتنقل مصادر عليمة لـ»البناء» من عمان الأصداء الإيجابية التي لاقتها مواقف بري من عدد كبير من رؤساء البرلمانات العربية في مقابل انزعاج إسرائيلي واضح عبر عنه بعض المسؤولين في كيان الاحتلال، وربطت المصادر بين موقفه في الأردن ورسالته الأخيرة التي وجّهها الى الحركيين، متسائلة: هل من علاقة لصفقة القرن بالفتنة التي كانت مدبّرة في أزقة بيروت بين بعض مجموعات الحراك «الموجّهة عن بُعد» وبين مناصري الحركة كمقدمة لفتنة أهلية وتعميم الفوضى وانهيار المؤسسات؟
انطلاقاً من وقائع هذا المشهد، يكون بري قد فعل كل ما يمكن فعله لحماية حكومة الرئيس حسان دياب لإدراكه بأنها الورقة الأخيرة لمجابهة الانهيار، لذلك ولتجنّب «فخاخ الشارع» الأمنية كانت جلسات الثقة سريعة بإقناع معظم التيارات لاختصار كلمات ممثليهم لتمرير الثقة للحكومة التي تنتقل اليوم الى العمل لمواجهة التحديات المالية والاقتصادية والضغوط الخارجية الأميركية مع رهان كبير على دور بري بإسناد دياب في صياغة الموقف الخارجي للبنان من مجمل القضايا.
وبحسب المعلومات تُراهن مرجعيات رئاسية على دور محوري لبري في ابتداع الحل للخروج من أزمة استحقاقات الديون كرئيس للبرلمان والراعي السياسي لوزير المال غازي وزني ومونته على المسؤولين المعنيين بالشأن المالي وجمعية المصارف.
هذه الأدوار الذي يؤديها رئيس المجلس بنجاح كبير كقامة وطنية وإقليميّة فريدة والتي تُفسر الحملة الكبيرة عليه خلال الشهور الماضية، كانت محل توافق بين نائبين سابقين بارزين من حزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر لدى لقائهما في أحد المجالس، إذ عبر نائب التيار عن انبهاره بقدرة بري على إدارة الجلسة وهندسة انعقادها وتخريجة النصاب المشكوك به من البعض ومنح الثقة والتنسيق مع رئيس الجمهورية وقادة الأجهزة الأمنية ميدانياً، حتى وصف النائب المذكور رئيس المجلس بـ»ملك اللعبة الداخلية»، بينما وصفه نائب القوات بـ»السلطان» لدوره المهيمن في إنتاج القرار ومسار الأمور، رغم انتقاده لانعقاد الجلسة بلا نصاب وسياسة التسويات الحكومية والسياسية والمجلسية التي تعطل الحلول في بعض المحطات، لكنّه أقرّ بأن بري حاجة وطنية رغم كل الظروف.
فبحسب مطّلعين، يربط بري بين صمود لبنان ومحور المقاومة مع القرار العربي والإسلامي رغم تخاذل بعض أركانه، وبين إجهاض صفقة القرن التي إذا نجحت فإن لبنان والمنطقة برمّتها ستدخل في الزمن الإسرائيلي – الأميركي. فلذلك يرى بري أن تحصين الجبهة الداخلية عبر دعم الحكومة، يُشكل نوعاً من الصمود الداخلي أمام ضغوط المشاريع الخارجية واعتباره أن أي تنازل فلسطيني لبناني عربي عن جزء من الحقوق لـ»إسرائيل»، سيؤدي تلقائياً الى تنازلات أكبر، لذلك أصرّ بري في مجلس النواب العربي على الصمود بوجه صفقة القرن ورفض لبنان التنازل عن حقوقه في حدوده البحرية ورفض التوطين الفلسطيني والسوري في آن معاً.
فما العلاقة بين أدوار بري في الأردن وبيروت وأكثر من عاصمة عربية وإسلامية ودوره الرائد في قيادة انتفاضة 6 شباط عام 1983 لإسقاط اتفاقية 17 أيار؟
إن مواقف بري وإنجازاته كرئيس للمجلس وكرئيس لحركة سياسية شعبية في محطات عديدة منذ 4 عقود الى الآن والتي لا مجال لذكرها، وآخرها كان في عمان وبيروت في 8 و11 شباط الحالي، تُجسد استمراراً لانتفاضته السياسية والشعبية والعسكرية في 6 شباط على اتفاق أميركي – لبناني اسرائيلي لتطبيع العلاقات مع «إسرائيل» أراد إخراج لبنان من جبهة المقاومة، ما يُساهم في تصفية القضية الفلسطينية على اعتبار أن لبنان المقاوم يمثل حديقة خلفية وعمقاً استراتيجياً لفلسطين. فكما كانت كلمته في عمان انتفاضة، قاد انتفاضة سياسية دستورية في ساحة النجمة أنقذت نظام المؤسسات وردت الروح الى الحياة السياسية اللبنانية.