كشف حساب في يوم العماد وأربعين القاسم
ناصر قنديل
– خلال أربعين عاماً هي أعوام ما بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وهي الأعوام التي أمضى الشهيد القائد عماد مغنية ما تيسّر له من العمر منها منذ البدايات الأولى حتى يوم الرحيل قبل اثنتي عشرة سنة، كان العنوان الذي أعلنه الإمام الخميني وتعاهد عليه مع رفاقه في قيادة الثورة، بناء نموذج ثوريّ جديد يستند إلى الإسلام لا يصيبه التكلّس والفساد من الداخل، ولا يساوم على الاستقلال والتنمية مع الخارج، ويبقي جذوة المواجهة مع المشروع الأميركيّ الإسرائيليّ مشتعلة، وفي ذكرى انتصار الثورة، الحادية والأربعين، ومع مرور أربعين يوماً على استشهاد القائد قاسم سليماني، تحلّ الذكرى الثانية عشرة لرحيل العماد، ويستحق كشف حساب.
– خلافاً لما يظنه الكثيرون من دعاة استنساخ ثنائية الدولة والثورة، ولما يظنه المتحدثون عن نفوذ إيراني في المنطقة، أو عن هلال شيعي، أو عن تصدير الثورة، كان المشروع الذي آمن به عماد مغنية ووهبه عمره، هو بناء مقاومة عالمية للهيمنة الأميركية، ومقاومة عربية إسلامية للمشروع الصهيوني، والإيمان بأن هذين المشروعين يلبّيان حاجات إنسانية وأخلاقية ويعبّران عن النظرة التي انطلقت منها القيادة الإيرانية في فهم الإسلام وجعله مرجعاً لها، وثلاثية هذا المشروع، ربط شرعية ومشروعية الجمهورية الإسلامية، أي الدولة، بالقدرة على بناء قاعدة متينة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً لحماية المشروع وتوفير المقدّرات لتقدّمه ونموّه، وجعل المقاومة من اجل فلسطين مشروعاً عابراً للعقائد والقوميات والديانات، والسعي لجبهة عالمية تناهض الأحادية الأميركية في مشروعها للهيمنة الاقتصادية والعسكرية والسياسية على العالم.
– كان العماد هو عماد مشروع بناء المقاومة العربية لأجل فلسطين، وكان الحاج قاسم سليماني القاسم المشترك بين خطوط تلاقي المقاومتين العربية والعالمية، وجاء الاجتياح الصهيوني للبنان، كما كل إجراء عدوانيّ مشابهاً تبعته في فلسطين، فرصٌ ينتظرها مشروع المقاومة، لينمو ويكبر ويقدم وصفته ويستقطب المزيد من النخب والشباب ويبني المزيد من الاقتدار، ويخوض المزيد من المواجهات. ونجح عماد نجاحاً منقطع النظير في لبنان وفلسطين، وأسس في سورية، وفي العراق وفي اليمن، وكانت تجارب المواجهة أعوام 1996 و2000 و2006، تظهر النجاح وتؤسس لما بعده. فكانت فلسطين حاضرة في انتفاضتها وتحرير غزة مع عماد مغنية، كما كانت سورية شريكاً في أعوام 1996 و2000 و2006 في لبنان، وكان تأسيس المقاومة في العراق وتحضير اليمن ساحة مقاومة من الإنجازات العظيمة، بينما أسس القائد قاسم سليماني في باكستان وأفغانستان، مستنداً إلى ما كان يبنيه ويرعاه في إيران، وامتدّ نحو تأسيس مشابه للعلاقة بسورية بعلاقة مع روسيا، والصين وفنزويلا وسواها.
– منذ رحيل العماد تحمل القائد قاسم سليماني بعضاً من أعباء مهمته، وتحمّل قائد المقاومتين العربية والعالمية السيد حسن نصرالله البعض الآخر، ومع رحيل القائد سليماني صار العبء كله على قائد المقاومتين، لكن أين نحن الآن من المشروع الأصلي؟ والجواب بالانتقال من مرحلة المقاومات المتفرقة إلى جبهة المقاومة الواحدة، تحت شعار واحد يترجم هتاف الموت لأميركا والموت لـ”إسرائيل”، ببرنامج عمل عنوانه، لا بديل عن المقاومة في فلسطين ولأجل فلسطين، بعدما صارت مشاريع التسوية بعضاً من الذكريات، وليس خافياً أن ربط أمن كيان الاحتلال بقبضات المقاومين وليس بتواقيع المهزومين، هو الذي أدّى لليأس الأميركي الإسرائيلي من رهان التسوية للخروج بالتمسك بالجغرافيا طريقاً للأمن بدلاً من مقايضتها بالأمن، الذي لم يعُد يملك منحه للكيان أياً من دعاة التطبيع وجماعات التفاوض والاعتراف. وجاءت صفقة القرن تعبيراً عن هذا التحول، الذي حشد الأمة بمفهومها الواسع والمركّب وراء خيار المقاومة كخيار وحيد. وتلعثم النظام الرسمي وارتبك وفقد الخطاب، واللغة، والدور، وصارت المقاومة سيدة الساحات، وفي المقاومة العالمية صار شعار إخراج الأميركي من المنطقة برنامج عمل للدولة الإيرانية وللمقاومات الموحّدة في محور، وقد أنجزت إيران ما توجب على دولة الاستقلال والتنمية من مقدرات. ومثلما كان رحيل العماد نقطة الانطلاق لتأسيس محور المقاومة وفاء لدوره وقيادته وما أشعل رحيله من مشاعر، جاء تعبيراً عن حاجة موضوعية لتلبية مقتضيات المواجهة، وتوزّع خرائط استثمار المقدرات العسكرية في المواجهات المقبلة، ومثل ذلك شكل رحيل القائد قاسم سليماني نقطة الانطلاق لمشروع عملي بدأ تنفيذه عنوانه تحرير المنطقة من الاحتلال الأميركي، بما هو أبعد من مجرد الوفاء للدماء، إلى طلب جواب يليق بحجم الانتقام عبر جعله الفقرة الرئيسية من برنامج الأهداف التي كانت حياة مغنية وسليماني مرصودة لتحقيقها، وعنوانها طرد المحتل الأميركي من المنطقة، وإنهاء كيان الاحتلال في فلسطين.
– خلال أربعين عاماً بلغت إيران ساحة الاشتباك الكبرى بعدما أكملت عدتها، ولم تعد إيران التي كانت قبل الأربعين، كما لم تعُد أميركا كما كانت وقد شاخت وهرمت وهزمت مراراً، ولا عادت “إسرائيل” كما كانت وقد تضعضت أركانها، واهتزّ كيانها، وفي يوم العماد وأربعين سليماني تبدو الأهداف أقرب مما يتخيّل الكثيرون، وبدلاً من أن يكون الاحتلال أشدّ شعوراً بأمنه برحيل القادة هو في حال ذعر من الآتي. والمقاومون والثوار يشعرون العدو بحضورهم في الغياب أشدّ مما يعيش حضورهم في الحياة، اسألوا قادة الكيان وقادة البنتاغون، هل هم أشدّ أمناً بعد اغتيال العماد والقاسم، أم أشد ذعراً وخوفاً ورعباً؟