حديث الجمعة من طهران (2)– ناصر قنديل
الملفات الإقليميّة والدوليّة مجموعة سجّادات أو شبكة أقنية مياه تُدار في آنٍ واحد: } الملف النوويّ بين رفع التخصيب والخروج من المعاهدة وإلغاء الحظر على السلاح } أفغانستان ساحة اشتباك مفتوح والتسويات مشروطة بالرحيل الأميركيّ } العراق ساحة عمليّات لا يعلن عنها الأميركيّون وتصعيد المقاومة الشعبيّة والسياسيّة } سورية ميدان تكامل مع روسيا واحتواء لتركيا تحت سقف السيادة السوريّة } خلفيّات صفقة القرن ما بعد الانتخابية وتحويل التحدّي فرصة
للأسبوع الثاني أخصص حديث الجمعة لطهران وما رافق زيارتها لستة أيام من لقاءات أتاحت التعرّف من مواقع صناعة القرار وقادة الرأي، على كيفية تفكير ونظرة القيادة الإيرانية للملفّات الإقليمية والدولية، بعدما خصّصتُ حديث الجمعة الماضي للشأن الداخلي الإيراني، سأخصص هذا الحديث لتناول تحليلات وقراءات ومواقف وقرارات تشكل أرضيّة وسقوف وأعمدة الموقف الإيراني في مقاربة الملفات المختلفة من الملف النووي إلى الوضع في أفغانستان والعراق وسورية والنظرة لما وراء صفقة القرن وكيفية التعامل معها.
الملفات معاً ولمَ لا؟
يفترض الكثيرون أنه باستثناء الدول الكبرى التي تملك مقدرات مالية وعسكرية هائلة لا يمكن التفرّغ لمتابعة العديد من الملفات المعقدة، دون الوقوع في مشكلة الأولويات، بينما تبدو إيران قادرة بسلاسة على الجمع بين الحضور والفعالية في ملفات لا رابط بينها سوى كونها ملفات تهم إيران، وربما يكون مهماً لإيران أنها أيضاً ملفات تهم الأميركيين، الذين يشكلون كيفما أدرت رأسك القطب المقابل لإيران. ففي إيران لا حاجة للتدرب على الإدارة المتشابكة لمجموعة ملفات معاً، من تاريخ التراث والثقافة التي يتوارثها الإيرانيون، مصدران رئيسيان لهذه السلاسة، الأول هو احترافهم كشعب حياكة السجاد، وهي حرفة لا تدرّب صاحبها فقط على الصبر وقدرة تحمّل الانتظار، وعلى الإتقان والدقة والتمييز، بل أيضاً على جمع الملفات. فالتقليد العائلي الإيراني منذ آلاف السنين يبدأ حياكة سجادة مع كل مولود جديد ويتوازى حبك السجادات معاً بالتزامن، تتقدّم إحداها وتتراجع إحداها وفقاً للحاجة، وأحياناً لمواعيد الزواج، ومثل حياكة السجاد صناعة قنوات جرّ المياه للري والشرب، من عشرات الآبار والينابيع إلى عشرات البلدات والقرى، ومنذ 2700 سنة لا تزال تشرب وتروي أرضها أكثر من أربعين بلدة وقرية في خراسان من قنوات لا يتسرّب منها الماء، تصل إلى كل البيوت والحقول والبساتين، وتسير تحت الأرض، ويديرها القرويون ويقومون بصيانتها، ومثلها مئات الشبكات المنتشرة في إيران، والتي فرضت على هندسة القرى والبلدات السكن في النصف السفليّ من سفوح الجبال تسهيلاً لسير المياه بقوة الجاذبيّة. وهكذا يعتاد الإيرانيون أن يكون بين أيديهم هذا الربط والتشابك بين ملفات عديدة، فلا يربكهم أنهم يديرون ملفهم النووي، وفي الوقت ذاته معنيّون بمعارك اليمن وفلسطين وحاضرون في أفغانستان والعراق وشركاء المعادلات السياسية ومعارك الميدان في سورية.
الملف النوويّ
يلتقي كلام السياسيين والدبلوماسيين والمعنيين بالملف النووي الإيراني تقنياً، مع كلام المعنيين أمنياً، بأن المسار السياسي المعقّد لم يتوقف، وليس مقفلاً رغم كل التصعيد في العلاقات الإيرانية الأميركية، فإيران على المستوى التقني تقدّمت كثيراً عما كانت عليه بتاريخ توقيع الاتفاق النووي، ويكفي القول إنها صارت تملك أجهزة طرد حديثة بطاقة تخصيب مرتفعة تعادل أضعاف ما كان سقفه أيامها التخصيب على نسبة 20%، وبات لديها ما يتيح مضاعفة الكميات المخصبة على مدار اليوم الواحد ليعادل ما كانت تحتاج إلى ستة أسابيع لتخصيبه على نسبة أقل بثلاث أو أربع مرات من قبل، وإيران تقنياً لا تقلّ خبرة وقدرة عن أي من الدول النووية المقتدرة، والتي تملك الدورة العلمية الكاملة. أما على الصعيدين السياسي والدبلوماسي فيصف مسؤول إيراني كبير معني بالاتصالات الخارجية، أن المواجهة المفتوحة مع واشنطن حول الملف النووي وسواه من الملفات خصوصاً بعد الاغتيال الإجرامي للقائد قاسم سليماني، لا تعني أن خطوط الاتصال الرسمية عبر السويسريين الذين يرعون المصالح الأميركية في إيران قد قطعت، بل ربما تكون فاعلة أكثر من قبل، ومعها شبكة تواصل غير مباشرة تضم عُمان وقطر وروسيا واليابان وفرنسا. ولكل من هذه الدول أسباب، ولإيران أسباب لمنحه دوراً في هذا الاتصال، كرصيد سياسي يحضر عندما يصير للحلول السياسية مكان، وتقتصر اليوم على حلحلة بعض الأمور العالقة كقضايا معتقلين وحاجات إنسانية، وتوريد بعض الحاجات الإيرانية من أميركا غير المشمولة بالحظر، لكن لا توقعات لبلوغها مرتبة السياسة. فالمناخ غير مناسب إيرانياً لأن الأولوية هي لتظهير الاقتدار وصولاً لفرض الانسحاب الأميركي من المنطقة ولو تيسرت فرص تفاهمات راهناً فهي مؤجلة، وثانياً لأن الزمن الانتخابي الأميركي غير مناسب لأي بحث سياسي جدّي. وإيران المهتمة باستقراء زوارها لما يتوقعون في الانتخابات الرئاسية الأميركية من باب معرفة الشيء وتحليله، تؤكد بألسنة العديد من الوزراء والمستشارين الكبار أنها غير معنية بما ستسفر عنه هذه الانتخابات، وليست لديها خطط لما بعد الانتخابات تختلف حسب طبيعة الفائز. فما تريده إيران واضح وواحد، وليست له نسخ متعددة، ولا يغيب عن بال الإيرانيين أن الانسحاب الأميركي من التفاهم النووي ليس نووياً، بل هو سياسي يرتبط بشؤون المنطقة وفي مقدمتها أمن «إسرائيل» المهتز والسعي لابتزاز إيران عبر العقوبات التي يتم ربطها تعسفاً بالملف النووي لمفاوضة إيران على وقف دعمها لحركات المقاومة في المنطقة. وفيما يميز الإيرانيون بين رغبة أوروبا وعدم قدرتها على حماية الاتفاق النووي، وعدم رغبة واشنطن وقدرتها على تعطيل الاتفاق، يعيدون الرغبة الأوروبية للمصالح السياسية والاقتصادية وصولاً للمصلحة العليا بالاستقرار ومكافحة الإرهاب الذي يعيش على التوتر والفوضى والفراغ، ويفسرون عدم الرغبة الأميركية بغياب المصالح الاقتصادية والسياسية وغلبة المصالح الأمنية، والمصالح الأمنية المحكومة بمأزق «إسرائيل» بصورة رئيسية، تجعل الملف النووي والحصار والعقوبات مجرد مسارح وأدوات، للتعبير عن الحاجة الأميركية للتفاوض الساخن أملاً بتحصيل مكاسب للأمن الإسرائيلي، ولذلك يلعب الإيرانيون أوراقهم بهدوء، فهم يتدرّجون في التصعيد النووي من داخل الاتفاق، ولا يخرجون منه، لكنهم يلوّحون لأوروبا بالخروج الأصعب وهو الخروج من معاهدة عدم الانتشار النووي، إذا خرجوا من الاتفاق أو ذهبوا إلى مجلس الأمن لعرض ملف إيران النووي، رغم عدم قلق إيران من هذا الاحتمال لوجود فيتو روسي وفيتو صيني تثق إيران بهما، إلا أن حماية الاتفاق بنظر إيران تتم بالتهديد بالخروج من المعاهدة، خصوصاً أن حماية الاتفاق مصلحة مشتركة. فإيران ستستفيد في خريف هذا العام من رفع الحظر على بيعها وشرائها للسلاح، وفقاً للاتفاق وهي حريصة على بلوغ هذه النتيجة، وهذا يعرفه الأوروبيون، ولذلك يقول مسؤول إيراني معني بأن وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل أنهى مهمته بنجاح برسم قواعد الاشتباك في غياب قدرة أوروبا على أداء موجباتها وفقاً للاتفاق.
أفغانستان
منذ الأيام الأولى لدخولهم إلى أفغانستان والأميركيون يعلمون أن إيران شريكهم في الملف الأفغاني، فعدا عن الجوار الجغرافي يلعب توزّع البشتون بين حدود البلدين دوراً في تشابك ديمغرافي كبير كما يلعب وجود الهزارا وهم شيعة أفغانستان دوراً في تشابك من نوع آخر، بينما أغلب حاجات أفغانستان من المشتقات النفطية والخضار واللحوم والطحين تأتي من إيران، والكثير من أبناء الطبقة الوسطى الأفغانيّة يعلّمون أبناءهم في جامعات إيران ويمضي أغنياء أفغانستان وشيوخ قبائلها مواسم الاصطياف على بحر قزوين أو في مناطقها الباردة خلال الصيف الأفغاني الحار، وفي ظل تجهيزات خدمية عصرية في إيران لا تتوافر في أفغانستان، والحضور الإيراني في أفغانستان عسكرياً لا يحتاج إلى إثبات. فالكثير من الفصائل المسلحة تنسق مع إيران وتتشاور مع قيادتها منذ أيام أحمد شاه مسعود وقلب الدين حكمتيار. وعن الحال اليوم يقول القادة الإيرانيون إن مفاوضات الأميركيين وحركة طالبان من فشل إلى فشل وستفشل حكماً إلا إذا قرّر الأميركيّون القبول بمبدأ الانسحاب الكامل من أفغانستان، الذي يشكل قاسماً مشتركاً بين الأفغان وإيران، التي تدعم حكومة الرئيس أشرف غني المدعوم من الأميركيين، وقد عقد قبل أيام مؤتمر وزاري شاركت فيه أفغانستان مع حكومات الهند والصين وروسيا وباكستان وطاجكستان وإيران وتركمانستان، لكن الإيرانيين لا يخفون قناعتهم بهشاشة وضع حكومة أشرف ولا كذلك بسيطرة طالبان على ثلثي مساحة أفغانستان، وعجز الأميركيين عن مواجهتها، والأهم قناعة القادة الإيرانيين الذين يتابعون ملف أفغانستان بأن طالبان مساحة هلامية لتدين إسلامي يتوزّع بين الاعتدال والتطرف، وفيها بيئة حاضنة لتنظيم القاعدة، لكنها فيها مساحة موازية لوطنية أفغانية تتركز على إخراج الأميركيين والتمهيد لدستور وانتخابات، من خلال حكومة وحدة وطنية تدعم إيران تشكيلها بالترابط والتزامن مع الانسحاب الأميركي. ويعلم الإيرانيون أن دعواتهم لرحيل الأميركيين من المنطقة منح حركات وتشكيلات وفصائل أفغانية سواء من أصدقاء إيران التقلدييين أو من البيئات الوطنية والمعتدلة في طالبان، هذا إضافة إلى لواء فاطميون الذي أشرف على دعمه ورفده بالمقدرات وبناء تشكيلاته النظامية الجنرال قاسم سليماني، وشاركت وحدات بارزة منه في الدفاع عن سورية بوجه تنظيم داعش وتشكيلات القاعدة، والذي توفي مؤخراً قائده محمد جعفر الحسيني الملقب بـ «أبو زينب» متأثراً بجراحه التي أصيب بها خلال المعارك في سورية، والتوقعات الإيرانية حول أفغانستان تتجه نحو بوصلة واحدة لا ترى بديلاً لها، هي حتمية الرحيل الأميركي خلال فترة غير بعيدة.
العراق
يأخذ الإيرانيون بالاعتبار العوامل التاريخية والجغرافية لعلاقتهم الخاصة بالعراق، والتأثير الذي يلعبه وجود أغلبية شيعية في العراق، سواء ما يؤثر من هذه العوامل لجهة تعظيم دور إيران أو إضعافه، لكنهم يركزون اليوم على دور محوري لسقف جامع هو موقف مرجعية النجف التي يشتغل الأميركيون والخليجيون على افتعال صادم وهميّ بينها وبين موقع قم المقدسة، أو مرجعية مرشد الجمهورية الإسلامية الإمام علي الخامنئي وفقاً لقواعد ولاية الفقيه، وتحت سقف المرجعية ينظر الإيرانيون لوحدة الساحة الشيعيّة كصمام أمان لمواجهة المشروع الأميركي، واستطراداً لتأثيرات التداخل الاقتصادي والتشابك الأمني والعرقي مع كردستان، ويتوقفون أمام ثلاثة عناصر حاسمة تجعلهم على يقين من استحالة نجاح الأميركيين في التلاعب بقرار رحيلهم من العراق: العامل الأول هو موقع السيد مقتدى الصدر كشريك كامل في معركة إخراج الأميركيين، وما له من خصوصية وطنية استقلالية تجعل الكلام عن أن معركة إخراج الأميركيين هي معركة إيران المفروضة على العراقيين مصدر سخرية، ولموقع السيد الصدر نتائج نابعة من تاريخه بعلاقاته مع البيئة السنية من جهة، وموقفه المبدئي من الاحتلال ورفضه المشاركة في العملية السياسية ودعواته المبكرة للمقاومة. والعامل الثاني هو استشهاد القائد العراقي المحبوب أبي مهدي المهندس الذي يختلف عن القادة الذين شاركوا في العملية السياسية ولاحقتهم تهم الفساد والثراء بمحافظته على نقاء الثوار والمجاهدين وتواضعهم ونمط عيش تقشفي ورعايته للفقراء والمساكين، واستشهاد أبي مهدي المهندس جعل إخراج الأميركيين قضية عراقية تعني قوى المقاومة والحشد الشعبي بالتأكيد، لكنها تعني كل ملتزم بصدق بمفهوم السيادة العراقية؛ أما العامل الثالث فهو أن إيران منفتحة على القوى التي تشترط لشراكتها بطرد الاحتلال الأميركي ربط هذه المعركة بالحديث عن خروج جميع القوات الأجنبية من العراق وتحييده عن الصراعات الإقليمية، ولا ترى أن لديها سبباً لرفض هذا الشعار، كما ربط معركة إخراج الاحتلال بمواجهة الفساد. والقادة الإيرانيون يتعاطفون مع هذا الشعار ويرونه قادراً على تأمين بناء دولة وطنية عراقية تطمئنهم وتجعلهم أقل انشغالاً بالهموم العراقية، ويجاهر القادة الإيرانيون بأن الحاجة ملحّة لصيغة حكم مختلفة عن تلك التي أسسها بول بريمير في زمن الاحتلال، وشكّلت السبب في تفشي الفساد والطائفية وإيجاد بيئة مناسبة للمحاصصة والفتن، لكن الإيرانيين مسؤولين حكوميين ومعنيين بالعراق في قيادة الحرس الثوري ومحللين متابعين يُجمعون على أن الأميركيين يخسرون يومياً بين صفوفهم قتلى وجرحى في عمليات مقاومة يتكتمون عليها، ولا ترى المقاومة سبباً للإعلان، لكن الأيام ستتكفل بتظهير الحقائق التي لا يمكن الصمت عنها أكثر.
الخليج واليمن
الاتصالات الإيرانيّة الخليجية قائمة، أحياناً مباشرة وأحياناً بصورة غير مباشرة، لكن العلاقات متوترة بسبب لا يتصل بالعلاقات الأميركية الخليجية أو بالدور الخليجي في صفقة القرن بقدر ما يتصل بالعدوان على اليمن، وقد طال أمد هذا العدوان أكثر مما يجب، ويبدي الإيرانيون إعجابهم بأنصار الله، ويقولون نحن لا نفاوض نيابة عن أي من الحلفاء بل نمهّد الطريق للتفاوض المباشر معهم وهذا ما حدث قبيل اتفاق استكهولم حول الحُديدة، ويعتبرون أن استمرار الحرب على اليمن بات فاقداً للمعنى، حيث أمن دول الخليج هو المعرّض للخطر، وحيث لا أمل يرتجى من تغيير المعادلات العسكرية لجهة إضعاف أنصار الله، وأن الحلفاء الغربيين لدول الخليج لا يخفون علناً التعبير عن أنهم سئموا الماطلة الخليجية في الخروج من الحرب وإيجاد مخرج سياسي واقعي دون شروط تعجيزية يستحيل فرضها على أنصار الله، ويقولون إنهم نصحوا الخليجيين مراراً بالإسراع في التوجه نحو الحل السياسي وساعدوا في خلق مناخ ملائم لمساعدة المبعوث الأممي في مساعيه التفاوضية، لكن التعنت الخليجي والتذاكي بالإيحاء بالإيجابية والتحضير لجولة حرب جديدة لا يزال طاغياً على تفكير الحكومتين السعودية والإماراتية، رغم وعود الإمارات المتكررة بالانسحاب. ويقول مسؤول إيراني بارز، ربما يكون الأميركيون بعد الحلقات الجديدة من المواجهة مع إيران يريدون بقاء الخليجيين في قلب المحرقة، لابتزازهم بوهم مخاطر تهدّد أمنهم وبيعهم المزيد من السلاح، لكن ذلك سيعني في حال أي تطور في المواجهة مع اليمن خسائر وتطورات يصعب حصرها والسيطرة عليها. ويضيف المسؤول الإيراني، أن أصحاب المدن الزجاجية محقون في خوفهم، لكن عليهم التحرك سريعاً نحو الحلول السياسية لتفادي الأسوأ.
سورية
يقول مسؤول إيراني بارز متابع للملف السوري وفي محادثات أستانة ومؤتمر سوتشي، ومعني بالتعاون العسكري والسياسي مع كل من سورية وروسيا، إن نهاية الحرب في سورية باتت وشيكة، وإن مصير سورية حُسم، والمسألة مسألة وقت. فسورية التي كنا نعرفها عام 2011 بحدودها ستعود موحّدة وتحت سيطرة الجيش السوري، لكن سورية التي كنا نعرفها سياسياً عام 2011 يصعب أن تعود كما كانت، ويرى أن انتصار مشروع الدولة السورية بوجه التقسيم والتفتيت والاحتلال شيء، والحاجة للإصلاح السياسي شيء آخر. ويوضح ان هذا موضع تفاهم سوري روسي إيراني منذ البدايات، ويعتقد كما مسؤولين إيرانيين آخرين أن تركيا التي لعبت دوراً تخريبياً في سورية طوال السنوات الماضية وهي اليوم تلعب آخر أوراقها لشل قدرة الجيش السوري عن التقدم وفرض سيطرته على المزيد من الجغرافيا التي تقع تحت سيطرة الجماعات الإرهابية، لا غنى عن العمل المستديم معها تحت عنوان الاحتواء، وللاحتواء معنى الصدّ عند الحاجة ولو بالقوة كما يحصل الآن، والدخول في تسويات وتفاهمات عندما تنضج. ولا يعتقد الإيرانيون أن الأتراك سيذهبون بعيداً فهم سيعيدون ما فعلوه في معارك حلب، يراهنون على الميدان حتى تتوضح الاتجاهات فيتأقلمون معها، ومثل حال الأتراك حال الأخوان المسلمين الذين تحتضنهم تركيا، وتحمل مشروعهم وتسعى لضمان فرض دورهم في العملية السياسية السورية المقبلة، وقد كانوا رأس الحربة في أخذ سورية إلى الأزمة فالحرب، لكن المسؤولين الإيرانيين يتساءلون عن كيفية احتواء التشققات الطائفية خصوصاً ما تركته الحرب من آثار تطرف وتمذهب في الساحة السنية والتمويل الخليجي الذي ترك بصمات خطيرة، ولا يزالون يعتقدون بإمكانية ضم الأخوان إلى عملية سياسية مدروسة يعلمون أن الرئيس السوري بشار الأسد يرفض مشاركتهم فيها ويعتبر إشراكهم مخاطرة يجب تفاديها، بمثل ما ينظر للدور التركي. ويعتقد الإيرانيون أن هذا التباين في الاجتهاد مع القيادة السورية، لن يؤثر على كون أي عمل في سورية يجب أن يجري تحت الثوابت السورية، ويعترفون أن سلوك الأتراك والأخوان يمنح مصداقية كبيرة لشكوك ومخاوف القيادة السورية، لكنهم يعتقدون أنه في النهاية بعد فرض الإرادة السورية في الميدان تجب معالجة ثلاثة عناوين: أولها كيفية تطبيق اتفاق أضنة كإطار للسيادة السورية وضمان طمأنة المخاوف التركية الأمنية، وثانيها كيفية إعادة توزيع الصلاحيات الدستورية بين رئيسي الجمهورية والحكومة، والثالثة كيفية ترتيب الانتخابات النيابية بطريقة تحوز شرعية شعبية ودولية لا يتم فيها استبعاد أحد، لكن الشغل الشاغل في سورية لإيران اليوم هو التهديدات الإسرائيلية بحرب استنزاف ضمن تقسيم عمل مع الأميركيين، يرد الإيرانيون أنهم يتمنّون وقوعه، لأن إيران في التوقيت المناسب لعروض قوة تظهر للإسرائيليين حجم الندم الذي سيُصيبهم من جراء أي عبث عسكري أو حماقة أمنية، ويكشف مسؤولون معنيون بالشؤون الأمنية والعسكرية أن الرد على أي عدوان إسرائيلي على القوات الإيرانية في سورية سيتمّ هذه المرة من داخل إيران وبموجب بيان رسميّ عسكريّ إيرانيّ.
صفقة القرن
يشارك الإيرانيون المتابعون للملفات السياسية الرسمية الكلام عن خلفيات انتخابية وراء توقيت الإعلان عن صفقة القرن، لكنهم يحاولون استكشاف أسباب أعمق تفسر هذه الحماقة بتوحيد الفلسطينيين وراء خيار المواجهة، وإسقاط المكانة الوسيطة لأميركا بين الفلسطينيين والإسرائيليين، والنفوذ الذي كانت تؤمنه لواشنطن بين القيادات الفلسطينية، ولا يرون سبباً منطقياً لوضع الحكام العرب الذين يخوضون التطبيع مع «إسرائيل»، ولا يمانعون بتصفية القضية الفلسطينية أمام إحراج يمنعهم من المجاهرة بقبول الخطة الأميركية، فيما لا يملك الأميركي ولا الإسرائيلي ما يتيح فرضها بالقوة أو إيجاد شريك فلسطيني وازن يقبلها. والتفسير الوحيد الذي يجدونه بالترابط مع اغتيال القائد قاسم سليماني هو اليأس من فرص التسوية بسبب انتقال زمام المبادرة إلى يد محور المقاومة في المنطقة، وعجز الشركاء المفترضين في التسوية عن تأمين الأمن لكيان الاحتلال. وهذا الأمن كان في الماضي سبباً كافياً لقبول فكرة التنازل عن الجغرافيا، بينما باتت السيطرة الكاملة على الجغرافيا بغياب فرص تسوية تحقق الأمن، هي الطريق للمزيد من الأمن. وهذه السيطرة تحتاج تغطية أميركية وضمانات بمواصلة تدفق المال والسلاح الأميركيين رغم عمليات الضم والتهويد التي تشكل البديل عن التسوية بتوافق أميركي إسرائيلي، فجاء الإعلان عن صفقة ترامب إطاراً سياسياً وقانونياً يضمن ذلك، لتذهب «إسرائيل» لإجراءات الضم والتوسع والتهجير، والمعيار هو المزيد من الأمن. وكما يظن الأميركيون والإسرائيليون أن الكيان يصير اكثر أمناً بهذه الإجراءات يعتقدون انه يصير أشد أمناً بعد اغتيال القائد سليماني، وعن المواجهة يقول المسؤولون المتابعون للعلاقة بفصائل المقاومة، إن الأمر لا يحتاج إلى الكثير من التفكير. فالمطلوب هو أن يكتشف الأميركيون والإسرائيليون أن الكيان بات أقل أمناً، سواء بالمقاومة الشعبية التي تجسّدها الانتفاضة، أو بالمقاومة المسلحة التي ستجد طريقها إلى الضفة الغربية والقدس والأراضي المحتلة العام 1948، وقد جدّدت صفقة القرن شراكة المصير بينهم وبين أبناء الأراضي المحتلة عام 1967 بعدما فرقتهم مشاريع التفاوض والتسوية التي لا مكان فيها لسكان الأراضي المحتلة العام 1948. ولا يخفي الإيرانيون أنهم يعلمون ما لدى المقاومة من مقدرات وحجم تأثير هذه المقدرات على أمن كيان الاحتلال ومنشآته الحيوية كلما فكّر الإسرائيليون بحرب جديدة على غزة، التي ستشكل قاعدة استراتيجية وعمقاً لكل المقاومة في كل فلسطين.
العقد الخامس
تدخل إيران العقد الخامس للثورة ولا تزال فتيّة، وهي ترفض نظرية النفوذ الإيراني في المنطقة بل تراه تشكيلاً لمصادر قوة في جبهة مقاومة للمشروعين الأميركي والإسرائيلي، كما ترفض نظرية الدولة والثورة وتناقضهما، ومثلها نظرية تصدير الثورة. فشرعية الدولة تأتي من التزامها بقضية التحرر الأولى إنسانياً ودينياً وأخلاقياً وهي قضية فلسطين، أي من استمرار الثورة، وإيران منذ انتصار ثورتها تسير وفقاً لخطة وقد كان العقد الأول للصمود وصد الهجمات، خصوصاً الحرب التي شنها رئيس النظام العراقي السابق عليها بدعم وتمويل خليجي وتسليح وإسناد غربي، والعقد الثاني كان للبناء، والعقد الثالث كان لامتلاك المقدرات، والعقد الرابع لتثبيت موازين القوة ورسم المعادلات، وها هو العقد الخامس للاقتراب من تحقيق الأهداف، وتحويلها إلى برنامج عمل، وهو بدماء الشهيد القائد قاسم سليماني، يقول مسؤول إيراني كبير، سيكون عقد تحرير القدس وإخراج الاحتلال الأميركي من المنطقة.