قطف ثمار مراهقة ترامب السياسية
سعد الله الخليل
الإعلان الروسي عن إنشاء المنطقة الأمنية المنصوص عليها في المذكرة الروسية التركية في أيلول 2018، بسيطرة الجيش السوري على الطريق السريع الدولي «إم 5»، والذي يمرّ عبر أراضي منطقة خفض التصعيد في إدلب قضى على آخر الأحلام التركية بالسيطرة على الأراضي السورية، والتوسع في مشروع السلطنة العثمانية التي يروّج لها أروغان، خاصة أنّ العملية أسقطت العشرات من الجنود الأتراك فيما لا تزال نقاطه الأمنية تحت حصار الجيش السوري، وتسعى أنقرة للحفاظ عليها عبر المفاوضات التركية الروسية، وبالتالي فإنّ الإعلان الروسي يوصل رسالة موسكو إلى أنقرة باستحالة القبول ببقاء التواجد التركي، متسلحاً بفشل أردوغان بمحاربة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره، وتعطيل البرامج الانفصالية في الأراضي السورية بحسب الاتفاق، وبالتالي كان الجيش السوري من وجهة النظر الروسية حاضراً لتنفيذ المهمة، وفرض سيطرته على الأراضي السورية، ما يعني أنّ الروسي منح التركي الفرصة لإنشاء ما يصبو إليه رغم قناعته باستحالة المقدرة، وهو ما يفسّر النبرة العالية والتهديد والوعيد للمسؤولين الأتراك وعلى رأسهم أردوغان حيال العملية العسكرية، والتي وضعت أنقرة أمام خيارين أحلاهما مرّ، فإما الانسحاب من سورية وإعلان الهزيمة، أو إبقاء جنودها في مرمى النيران السورية وتحمّل فاتورة الدم التركي، وارتفاع مستويات السخط التركي من المضيّ بتعريض الجنود للخطر، وتبعاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية باستنزاف رصيد العدالة والتنمية وأردوغان المنخفض أصلاً فيما شكلت سيطرة الجيش السوري على الطريق الدولية حلب اللاذقية ضربة لا يمكن استيعابها وليعلن أردوغان خيارات المضيّ في الحرب فكان إسقاط الطائرة المروحية محطة جديدة في حرب الشمال السوري والتي كشفت مدى انفصاله عن الواقع الميداني حيث وصل الجيش السوري مشارف معبر باب الهوى الحدودي.
الموقف الأميركي في الشمال السوري ليس بأحسن حال من الموقف التركي، فصورة الأميركي الجبار القادم لتحرير المدنيين ودعمهم اهتزت سريعاً في الأوساط الشعبية التي جرّبت بطش التنظيمات الكردية والأميركية، فمنح التقدّم السوري في إدلب دفعة معنوية للتعبير عن السخط الشعبي من الممارسات الأميركية، وما الاشتباك بين القوات الأمريكية وأهالي قرية خربة عمو شرق القامشلي، وانسحاب الرتل الأميركي بعد مواجهات مع أهالي القرية، يُضاف إليه تصدي عامل نظافة ببلدية القامشلي لدورية أميركية وإنزال العلم ليس إلا أول مظاهر انهيار المهابة الأميركية.
على الجبهة الجنوبية لم يكن العدوان «الإسرائيلي» على سورية والذي استهدف محيط مطار دمشق ومواقع في ريف دمشق العدوان الأول، ولن يكون الأخير في ظلّ المواجهة المفتوحة بالحرب على سورية، ولعلّ الرصد الدقيق والتصدي لأغلب الصواريخ سيضع احتمالات تكرار العدوان قائمة، وهو ما يدركه السوريين جيداً خاصة في ظلّ الظروف الانتخابية التي يمرّ بها رئيس وزراء العدو الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، سبقته إسقاطات المضادات الجوية الصواريخ جنوباً في المنطقة المعروفة مثلث الموت المتداخلة بين أرياف درعا القنيطرة ريف دمشق كإنجاز يضاف لما يحققه الجيش السوري شمالاً.
استمرار الغارات والسلوك العدواني «الإسرائيلي» يتماشى مع التورّط الأميركي في سورية، فرغم تصريحات الرئيس الأميركي الانسحاب من سورية، فإنّ قواته تجهّز مقرات قيادة في شمال سورية وتبرّر العدوان من بوابة المواجهة مع إيران، والتي تشكل العنوان الأبرز لمعارك ترامب في السياسة الخارجية، والتي باتت مثار تساؤلات وانتقادات بل وسخرية في الكثير من الأحيان، لتغيّر الصورة التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية تغيّر في الخارطة السياسية والعسكرية والبنية الاجتماعية في العالم، وبروز الولايات المتحدة كقوة عظمى على الساحة الدولية والتفرّد بمصير السياسة العالمية، وإيجاد شبكة من الأتباع من دول الخليج إلى دول آسيوية وأوروبية وفي أميركا اللاتينية، سارت في الركب الأميركي وقدّمت أراضيها لبناء قواعد عسكرية تحاصر خصومها من روسيا إلى فنزويلا مروراً بسورية وإيران وعلى رأسها دول الخليج بقيادة السعودية حيث تتخذ القواعد صفة تثبيت الحكم وادّعاء الحماية من الخطر الإيراني.
وفي المنطقة ومنذ عقود تشجّع قادة الخليج للوجود العسكري الأميركي معتقدين أنه ردع للعدوان، وجعلهم أكثر أماناً إلا أنّ ذلك تغيّر بحسب صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية في أيلول الماضي، باستهداف منشآت النفط السعودية في “بقيق” و”الخريس”. حيث لم يردع الوجود العسكري الأميركي هذا الهجوم ما شكل صدمة هزّت الصورة النمطية للحماية الأميركية.
اهتزاز الصورة الأميركية في أعين الحلفاء قبل الخصوم لم يكن وليد اللحظة، إنما منذ تسلم ترامب سدة البيت الأبيض حيث دأب على تقزيم حلفائه قبل الخصوم بصورة ساخرة، ما أضرّ بسمعة واشنطن قبل حلفائها، لتضيف الأحداث المتتالية المزيد من تآكل الصورة الأميركية والرصيد السلبي لواشنطن، خاصة بعد فشل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في السيطرة على اليمن، وتورّطه في جريمة قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي وفرض الأتاوات بعد احتجاز كبار رجال الأعمال في فندق «الريتز كارلتون» وتعذيبهم، وأسلوب الانفتاح المجتمعي غير المفهوم الذي تشرف عليه هيئة الترفيه المنبثقة من رؤية ابن سلمان لململكة 2030، والتي تبدو دخيلة على المجتمع السعودي في محاولة لرسم صورة مشرقة للمملكة كوجهة سياحية ثقافية لا مركز للوهابية العالمية.
في الملف الفلسطيني يأتي إعلان صفقة القرن كمشروع أميركي لشرعنة احتلال العدو الإسرائيلي لما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وبالرغم من الانتقادات الكبيرة التي قوبلت خطوة ترامب من الأطراف الأميركية وحتى الإسرائيلية، كون جوهر ما في الخطة منح نتنياهو نقاط قوة في معركته السياسية بعد مأزق الانتخابات، وقضائية بما يواجهه من تهم بتلقي الرشاوى والفساد مقابل المزيد من التضييق على الفلسطينيين، وإحراج السلطة الفلسطينية التي لا حول ولا قوة لها، وبالتالي فإنّ الخطة فتحت أبواب مغلقة دون أن تقدم للسلام المنشود.
بالرغم من الانحياز الأميركي المطلق لصالح «إسرائيل»، والتبعية السعودية المطلقة لواشنطن منذ نشأت المملكة، فإن ما أضاعه ترامب خلال سنوات إدارته من هيبة الولايات المتحدة في ملفات الشرق الأوسط، بالتماهي مع جنون سلمان بن عبد العزيز ونتنياهو وأردوغان، والإصرار على فتح حروب اقتصادية وعلى روسيا والصين، يعادل ما بناه من سبقه في البيت الأبيض منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما قرأه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جيداً، ليتسيّد المشهد ويربط عقد الشرق الأوسط في موسكو، وليقطف ثمار مراهقة ترامب السياسية وأتباعه.