جعجع ديماغوجيا أم سفسطائية أم بروباغندا؟
ناصر قنديل
– حاول الدكتور سمير جعجع مساجلة دعوة الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، استباقاً لمطالبته بتلقفها، والدعوة قائمة على الفصل بين الخلافات السياسية وبين الملفات الاقتصادية، وتنطلق من أن حجم وعمق الأزمة ببعديها المالي والاقتصادي يفرضان على الجميع التبصر في أن لا شيء سيبقى للخلاف عليه وحوله إذا وقع الانهيار الذي يحذّر منه الجميع. وهي دعوة تلامس ما يتمناه كل لبناني في سره لمستوى تفكير القادة ولدرجة تحمّلهم للمسؤولية، وقد بلورها السيد نصرالله بالدعوة لنوع من لجنة أو اجتماعات تشترك فيها الكتل النيابية مع الحكومة لبلورة الحلول ومناقشتها، والسير بما يتفق عليه انطلاقاً من حجم الخطر من جهة، وترجمة لدرجة الشعور بالمسؤولية من جهة موازية، ولعله من المفيد التذكير أن كلام السيد نصرالله لم يأتِ سجالياً، لا مع القوات ولا مع سواها.
– بدأ جعجع تعليقه بوصف دعوة السيد بمحاولة التهرّب من المسؤولية، ثم دخل معها في مشروع سجاليّ، مشترطاً على حزب الله القيام بثلاثة، رفع الغطاء عن حلفائه في فساد الكهرباء، ووقف تدخله في ملفات عربيّة ترتب عليها انكفاء عرب الخليج عن دعم لبنان، ووضع سلاح المقاومة بعهدة الدولة لأن بقاءه خارجها أفقد الدولة المصداقيّة، وبالتالي الدعم الدولي. وحسناً فعل جعجع بأنه قال ما قال، وهو كلام يردّده كل خصوم المقاومة، في السرّ والعلن، ولو بالمفرق وجاء يعرضه جعجعج كبضاعة بالجملة، متهجماً بالاتهام بالتهرّب من المسؤولية على الحزب الذي لم يُعرَف عنه إلا التفوّق بالتصدي لكل تحدي بأعلى درجات المسؤولية.
– في مدارس السجال والمنطق، تحضر لدى قراءة جعجع مدرسة الديماغوجيا والقائمة على تجميع تلفيقي لذرائع يمكن أن تبدو حججاً منطقية لتسويق موقف أو فكرة أو توجيه اتهام. وهي مدرسة الغوغائيّة الفكرية والمنطق الكلامي، أي الترتيب التسلسلي للكلمات وتنميق عرضها بما يوحي بتماسك الفكر الواقف خلفها. وهناك البروباغندا، وهي المدرسة الدعائيّة القائمة على الترويج الدعائي لفكرة يراد زرعها في عقول الناس من خلال توجيه أحادي لمنهج مقاربة الموضوع بعزله عن سياقه، ويرمي في طريق التلقي مجموعة معطيات مموّهة، وغامضة غير مثبتة، اعتماداً على خلق الانطباع بدلاً من الإقناع. والمدرسة الثالثة هي السفسطائية التي تمثل تفوّقاً منطقياً ومنهجياً، برفض القبول بالمسلّمات والبديهيات والتفوق في تفكيكها وصولاً لهزيمة المنطق الآخر، وربما تكون السفسطائيّة كمدرسة رافقت حكم الشعب وظهور ممثليه في أثينا بعد سقوط الأوليغارشيا، وحكم أمراء الحرب وأثريائها، موضوع تقليد لدى الكثير من الانتهازيين الذي يرغبون بالتشبّه بثوريّة السفسطائيين.
– ما قاله جعجع سهّل النقاش والتفنيد إذا تحرّرنا من الانطباع، وكشفنا سطحية المنطق العاجز عن الإقناع. فأي غطاء يقدّم السيد نصرالله للفساد في قطاع الكهرباء. وهل تقدّم نواب القوات الواثقون مما بين أيديهم من توجيه الاتهام لمن يسمّيهم جعجع بحلفاء السيد نصرالله، ومعهم كما ظهر كلام الحليفين في قوى الرابع عشر من آذار، بطلب تشكيل لجنة تحقيق برلمانية في ملف الكهرباء من ألف إلى يائه، منذ العام 1990، وليرفضها نواب كتلة الوفاء للمقاومة ليمكن اتهامهم بتوفير التغطية للفساد؟ وما أسهل الاختبار لو اراد جعجع وحزبه تحمل المسؤولية بدلاً من التهرّب منها! أما الحديث عن العرب الذين انكفأوا عن لبنان بسبب مواقف حزب الله، فهل قول جعجع إنهم انكفأوا يجعل ذلك حقيقة؟ وهل حجز رئيس حكومة لبنان حليف جعجع نظرياً، في فندق الريتز بالسعودية وإملاء الاستقالة عليه، كان انكفاءً، أم أن حلفاء جعجع من العرب هم شركاء في مواجهة تقودها واشنطن لحساب “إسرائيل”، وخطة المواجهة معلنة وقد راهنت على إفقار لبنان للضغط على المقاومة وسلاحها، كما يفعل جعجع، وصولاً للقول إن المال المطلوب ثمنه السلاح ولاحقاً ترسيم النفط وليلتحق باللاحق فرض مشروع التوطين؟ ونأتي لمصداقية الدولة، فهل ورد في مؤتمر سيدر حديث عن مصداقية الدولة في الإصلاح أم في السلاح، وهل تقارير شركات التصنيف العالمية تتحدث عن مصداقية الالتزام بالشروط والمعايير الشفافة للإنفاق، أم مصداقية الالتزام بالشروط الإسرائيلية للبنان الضعيف. ويعلم الدكتور جعجع أن هناك جهة واحدة هي واشنطن تربط هذه بتلك وتفعل ذلك لحساب “إسرائيل”، ويردد جعجع وراءها الربط، فهل سأل نفسه لحساب مَن يفعل؟
– ثمة طريقان لمواجهة الأزمة، طريق تعرضه واشنطن علينا وتحدّث عنها كل من جيفري فيلتمان وديفيد شنكر مطولاً، وأسمياها طريق الازدهار الممكن، ومدخلها ما عرضه جعجع على السيد نصرالله، أي تعرية لبنان من مصادر القوة والانضواء تحت الوصاية الأميركية، وتلك قمة التهرّب من المسؤولية. وطريق أخرى وطنية لبنانية تقوم على الإقرار بالاختلاف بين اللبنانيين على أشياء كثيرة، والسعي للعمل معاً فوق الخلاف لخطة إنقاذ تعتمد على توظيف القدرات اللبنانية ووضع الخطط الإصلاحية، والتواصل مع الخارج للفصل بين خلافاته السياسية مع لبنان وبين تعاطيه مع أزمته الاقتصادية، بأن يبدأ اللبنانيون بفعل ذلك. وهذا هو عين تحمّل المسؤوليّة.
– بعض البروباغندا، وبعض الديماغوجيا، لا يجعلان صاحبهما سفسطائياً، ولو بذل جهداً، فقد سقطت محاولته بكلمة تكرّرت كثيراً في ردّه هي المصداقية.