العميان الجدد لمحمد إقبال حرب…! فضاء الخروج إلى عالم آخر ورؤاه
} عبد المجيد زراقط
«العميان الجدد» مجموعة قصص قصيرة لمحمّد إقبال حرب، صدرت مؤخراً عن دار النهضة العربية في بيروت.
يشعر قارئ القصة القصيرة بالغبطة عندما تصدر مجموعة قصصيّة قصيرة في زمن هيمنة الرِّواية، ففي كثير من الحالات لا يجد كاتب هذا النوع من القصص فرصة لنشر إنتاجه، وخصوصاً في هذا الزمن الذي قلّ فيه الإقبال على القراءة الورقيّة.
وضعت عنواناً لمقاربتي هذه المجموعة القصصية هو «فضاء الخروج إلى عالم آخر ورؤاه»، وأقصد بـ«الخروج»، هنا ما تعنيه وظيفة الوحدة القصصية التي تلي الوحدتين القصصيَّتين: الفقد واتخاذ القرار بتعويضه، فالمعروف أنَّه بعد أن يحدث الفقد وتدركه الشخصية، وتدرك ضرورة تعويضه، تتخذ القرار بالخروج، والسعي من أجل تحقيق ذلك، كما حدث، في ألف ليلة وليلة على سبيل المثال، فبعد أن أدركت شهرزاد الفقد المتمثِّل بقتل شهريار للفتيات اللواتي كان يتزوّج واحدةً منهن لليلة واحدة، ويقتلها. أدركت شهرزاد ضرورة تعويض هذا الفقد، وإيقاف مسلسل القتل، فارتضت أن تكون زوجة للملك القاتل، وخرجت تحكي حكايتها التي عوّضت الفقد، وروَّضت «ذكورية» شهريار القاتلة.
في هذه المجموعة، يبدو لي أن كاتبها يخرج من هذا العالم المعيش إلى عالم آخر جديد يبتدعه، بعد أن أدرك أن العيش في هذا العالم غدا صعباً. فالمشاكل تفاقمت، ولم يعد حلّها ممكناً. ولهذا فهو خروج، كما في قصة «زقزقة»، إلى فراشه، كبني البشر الذين ينتمي لهم حبّاً وغصباً، فيبدو الفراش كأنّه «الرحم» الذي كان يوفِّر له الغذاء والأمان والدفء.
لكن هذا الفراش يغدو، وهو يريد دفن مشاكله كلّها تحته، «لحداً»، ينبض قلبه فيه بسرعة كأرنب تطارده الذّئاب، بعد فراره من الثعابين. لكنَّ «زقزقة» عصفورة تبعث في أعماقه ما يسمَّى إنساناً، لأنَّها تنطق بالصّدق والعفوية والبراءة. السُّؤال الذي يُطرح، هنا، هو: ماذا يفعل المرء، عندما يغدو الفراش/الملاذ لحداً، وتصير الفصول جميعها خريفاً، ويهاجر الطير…؟ ماذا يفعل المرء في زمن النّكد؟
تجيب هذه المجموعة: في زمن النّكد الذي يهجره الطير، بما يرمز إليه، من جمال وصدق وعفوية وبراءة…، يخرج المرء إلى عالم جديد، فأيُّ عالم هو هذا الذي خرج إليه من عاش يدفن أسقامه الاجتماعية في فراشه الذي تحوّل إلى لحد؟ ثم ما هي الوسيلة التي يستخدمها للخروج إلى هذا العالم الجديد الذي يبتدعه؟
أذكر أنِّي قرأت قولاً لـ«يونغ»، صاحب نظرية «اللاوعي الجمعي»، مفاده أنَّ الفن هو ما يجلو صدأ العيش، وهو ما يخرج الإنسان من عالم لا يُحتمل العيش فيه إلى عالم جديد خاصّ يكون سيّده، ويعوّض الفقد الذي أجبره على الخروج من عالم لا يحتمل العيش فيه. والأدب فن يؤدّي هذه الوظيفة. ويبدو لي أن محمّد إقبال حرب تخيَّل، في قصص مجموعته هذه التي تكاد تكون نصاً واحداً، عالماً جديداً كان هو سيِّده، فما هو هذا العام؟
يتمثَّل هذا العالم الذي تجري فيه أحداث قصص هذه المجموعة في أربعة فضاءات قصٍّ: أوَّلها فضاء الطبيعة والأشياء، كما في قصّتي «تفّاح» و«سباق النجوم»، وثانيها فضاء افتراضي، كما في قصة «فايسو وبوكّة»، قصة حب عصرية، وثالثها فضاء الحياة البشرية، كما في قصص «العميان الجدد» و«أسرار المخدَّات» و«تأميم الأجساد»، ورابعها فضاء الكون، بكل ما فيه من كواكب ومجرّات متخيَّلة.
في الفضاء الأول، تجري أحداث متخيّلة شخصياتها أشياء ترمز إلى البشر. سمّي هذا النوع من القصص خرافات، ويعرَّف بأنَّه قصٌّ متخيّل لا عالم مرجعياً له، ويهدف إلى تقديم حكمة.
قصّة «تفاح»، في هذه المجموعة، تنتمي إلى هذا النوع من القصّ، وفيها يجري حوار بين تفاحتين: حمراء وخضراء. واللاَّفت، في هذا الحوار، أن التفّاحة الحمراء التي تقول بثقة إنّها، حين تقدر على رسم قدرها للأفضل، ستفعل من دون تردّد (ص 22)، لكنها تقرُّ، بعد قليل، أن قدر التفاح أن يؤكل بطريقة ما (ص. 23)، ما يعني العجز عن تغيير القدر.
لعلّ وعي هذه الحقيقة أو لا وعيها، هو الذي يخرج العاجز إلى عالم آخر. وإن كان من خروج إلى الفضاء الافتراضي، وهو الفضاء الثاني، في هذه المجموعة، يلاحظ في القصة التي تجري أحداثها في هذا العالم وفرة مصطلحات العالم الافتراضي، واقتحام «فايروس» لـ حساب السيدة «بوكّة» بشراسة فأجهضت، فلم يحتمل السيّد «فايسو» الصّدمة، فألغى حسابه.
إنَّ عالماً يقتحمه «فايروس» ليس العالم الملاذ، ما أفضى إلى فضاء الحياة البشرية، وتغيير قوانينه وشروط العيش فيه. ففي قصة «العميان الجدد»، وهي القصة التي تحمل هذه المجموعة اسمها، والتي تجري أحداثها في 20 آب سنة 2054. يعني زمن هذه القصَّة أنَّ ما يروى من أحداث هو تخيّل افتراضي لما سيجري في ذلك العام، فكأن القصة تنتمي إلى الخيال العلمي، لكنَّ قصص هذا الخيال تروي أحداثاً متخيّلة ترتكز على أساس علمي، والأحداث، في هذه القصة، افتراضيَّة مفادها فَقْدُ البشرية حاسة البصر، نتيجة موجة تلوين اللون القرمزي كوكب الأرض. وإذا ما تم هذا الفقد سقطت الحضارة (ص. 31)، ومظاهر السقوط كثيرة.
في هذا الفضاء، يعلو صوت يقول: «لا، لن نعود بكم إلى لعنة البصر بل إلى نعمة البصيرة»، ويسأل الصوت: «ماذا يهمُّكم من أرض تحفل بنور لا ترونه». هذا الصوت دالٌّ على عدم الرؤية الصحيحة، «رؤية النور» الذي تتبيَّنه البصيرة، وهي فعيلة، صيغة مبالغة من البصر. وهذه رؤية تكشف واقعاً، وتدعو إلى تغييره، فالمبصرون الذين لا يرون النور هم عميان، وإن كانوا مبصرين، ما يطرح سؤالاً هو: ما جدوى البصر لمن لا يرى؟
وفي قصة «أسرار المخدّات»، يتغيّر قانون العالم الطبيعي، فتبوح المخدّات لأحدهم بأسرار من يضع رأسه عليها. فيعلن هذا الحقائق التي تنطق المخدات بها، فتتعالى الأصوات: لا نريد الحقيقة، فالعالم كلّه مبني على الكذب والخداع، ومعرفة الحقيقة تهدمه، وتتسبَّب بمآسٍ كثيرة. الفكرة القائلة: إنَّ معرفة الحقيقة تمثِّل قوَّة مدمِّرة فكرةٌ معروفة وقديمة، نطق بها فيلم سينمائي عنوانه «أرض النفاق» على سبيل المثال، ونطقت بها مأساة أوديب وقصص أخرى في مثالٍ آخر. كما أنَّ فكرة «المخدة التي تحكي الحكايات قد استُخدمت، وأنا أصدرت مجموعة قصصية عنوانها «حكايات مخدتي». والمخدة، في هذه الحكايات، لا تبوح بأسرار، وإنما تحكي حكايات تربوية مسلِّية ممتعة، وهذا تناصٌ موظَّف في أداء رؤية الرَّاوي الفكريَّة.
وفي قصة «تأميم الأجساد (ص 82) يصدر القرار الأخير بتأميم الأجساد لمصلحة الوطن والمواطن، إذ ليس من العدل أن يستمتع فَرْدٌ ما بجسد مفعم بالحب والإثارة لسنوات، بينما مواطن آخر، من الجنس والعمر نفسيهما، تفرض عليه إقامة علاقة مع جسد كريه بسبب غلطة حدثت يوم قرَّر أو قرَّرت الزواج. وقال القرار بإلغاء المؤسسة الزوجية، كما هو متعارف عليه، من أجل مجتمع متكافئ عادل.
يلقى هذا القرار معارضة، ويُلغى، لكنه يصدر من منظور مفاده «الأجساد هي أملاك عامّة تسكنها أرواحنا لتخدم البشرية، من أجل التوصّل إلى حياة أزلية، تكتنف الكون بأرواح نورانية، بعيداً عن أجساد بائدة نكون مضطرين إلى أن نحلَّ عليها ضيوفاً رغماً عنّا» (ص83).
تتكرر رؤية هذا المنظور في قصص هذه المجموعة، كما في قصة «عقد إيجار» (ص 66). ومما جاء فيها: «أيها الرّجل، عندما تولد نحدّد مدّة استخدامك لجسد وُهب لاستضافتك». وإذ ينتهي عمر الجسد، تسكن الروح في جسد آخر. ففي هذه القصة، نلتقي الرّجل الذي أصبح أنثى راقصة في معبد بعدما كان كاهناً. وفي قصة الخديج (ص 136)، يقول الكيان: «الجسد هو الجهاز الذي لا يفيد بشيء إذا لم تصله الكهرباء لتشغِّل القرص الصلب…» (ص. 142 و143).
ما يقوله «الكيان» هو عرض رؤية فكرية، ما يجعل هذه القصّة وسيلة أداء معرفة فكرية موضوعها الوجود الإنساني. ممَّا جاء في هذه القصَّة أنَّ مكوِّنات الإنسان هي الجسد والروح والنّفس، وأنَّ ما يموت هو الجسد، والروح تذهب إلى مركز تأهيل (ص144)، والنفس تؤدِّي دور العقل المدبّر، أو المحرّك لكل التصرفات (ص 147).
ويستشهد الرَّاوي، في سبيل تأييد أفكاره، بآيات من القرآن الكريم عن النفس المطمئنة، والنفس اللوّامة والنفس الأمَّارة بالسوء، ويرى أن العقاب لا يكون إلا بعد الحساب. ولهذا فهو يقول: «ألا ترى بأنكم تفرحون لقادم إلى دار بلاء وفناء، وتولولون لراحل إلى رحمن رحيم، أليس من الأفضل أن تقيموا الأفراح لمن سيلقى رباً رحيماً» (ص 145).
تبدو هذه الأفكار عن الجسد والرُّوح…، كأنها تنويع على فكرة التقمُّص وتعدّد الولادات. غير أن القائل بها يحاول أن يجد سنداً لها من القرآن الكريم. يقول الكيان: «يا هذا، أنت في ضيافة الرحمن حتى تبتعث في مهمة أخرى. فما بالك، وأنت روح، وبك من روح الله ذرَّة كما قلت بذاتك. ليتك تتذكر أنك جئت إلينا آلاف المرات، وأعدنا برمجتك آلاف المرات من دون أي مشكلات» (ص155).
هذه الرؤية تفتح العوالم، فيغدو الكون عالماً مفتوحاً، ويصير الفضاء القصصي، في كثير من القصص، هو هذا الكون المفتوح. فأصحاب قرار تأميم الأجساد قالوا إنهم لم يتخذوا هذا القرار جزافاً، وإنَّما اتخذوه بعد الاطلاع على مسيرة الكواكب الأقدم في مجرّة درب التبّانة.
يفيد هذا الاطِّلاع ما يأتي: اشتهر كوكب فيغا وكوكب الزّهرة «اللذان تحوَّلا إلى مجموعة الكواكب النورانية منذ أمد طويل، وبذلك توصلوا إلى الأبدّية، كما إلى عدم الاعتماد على المواد العضوية من أجل البقاء».
وإذ يصبح الكون فضاء قصصياً، يغدو القصُّ غرائبياً. بدت بعض ملامح هذه الغرائبية في تغيير قوانين الحياة البشريّة في بعض القصص التي تجري أحداثها في فضاء هذه الحياة، لكن الغرائبية في القصص التي تجري أحداثها في الفضاء الكوني تصبح هي السائدة، ويصبح الرّاوي سيّد عالم من القصص، فينشئه كما يشاء, ونماذج ذلك كثيرة. نذكر منها على سبيل المثال: «عندما كان كوكب الأرض مربَّعاً، سكنه أناس بأوجه مثلَّثة. كانوا بعين واحدة وأنف صغير وفم واسع» (ص 38). «مدّت يدها إلى السماء كما كل ليلة، لتقطف ما نضج من ثمار النجوم من دون عناء أو ضجر» (ص 98). «فأمسك بزمام غيمة قريبة وأقودها، كما كنت أقود الحمار في ضيعتي، عندما كنت طفلاً» (ص 98). «تعلّمت أن اضع النجوم التي أقطف بعد عدّها، في زجاجة حليب ورثتها عن طفولتي، ثم أخفقها جيّداً، بعد إضافة رحيق البدر مع بقايا محاق القمر الأزرق» (ص 115).
هذا عالم يصنعه القاصّ ويخرج إليه، ويتخيّل عالماً يعيش فيه نوع آخر من المخلوقات. يقول الرّاوي في قصَّة «المشيمي» (ص 176): «لكنهم على كوكب فيغا، وعلى مرّ العصور، أثبتوا جدارتهم في إذابة أنواع الحياة الذكية بأشكالها في حميمية إصرارهم على كون يتّسع للجميع. لقد أشاعوا المودَّة للمجرَّات حتى أضحى كوكبهم صلة وصل الحضارات ومنارة السلام الكوني» (ص 177).
هذا هو العالم الآخر الذي يخرج إليه، وفي خروجه سترافقه حوريّات الرّبيع، عبر حرّ وصقيع إلى أبواب الحقيقة، ليدرك سرّ الوجود، فيغدو كائناً يدرك أن حقيقة الوجود إنما هي صراع البقاء من أجل النقاء (ص 118).
وهذا الإدراك يأتي في زمن آن فيه أوان البصيرة، فيرفع المرء رأسه، ويقول: صرت نقيَّاً، وغدت الحرية لي مصيراً، وليس خياراً فحسب.