«أنت من وين»؟
زياد كاج*
وقف في باحة الملعب الرملي الأبيض وهو يحدّق في الأستاذ حاملاًً «جهاز مكبّر للصوت»، منادياً أسماء الطلاب فرداً فرداً للصعود إلى قاعات الصفوف. كل تلميذ كان يحمل بطاقة بيضاء، مقلمة تضمّ أقلام حبر ومسطرة، وكمية من الخوف ورهبة الامتحان ـ «عندما يُكرَم المرء أو يُهان !»
لكن الصبي لم يكن يتوقّع ما حصل معه في اليوم الأول من امتحانات «شهادة البريفيه الرسمية»: بقي وحيداً في الملعب الشاسع بعد أن صعد كل الطلاب! لم ينادِ الأستاذ اسمه. فهرول مسرعاً على الدرج وسأله عن السبب. كانت المرة الأولى التي يكتشف فيها أن اسم عائلته كتب خطأ بسبب (وهذا ما سيعرفه مع تقدم عجلة الزمن)… أنه فعلاً اسم غريب.
بعد أسابيع، عرف من دموع أمه وهي تقف أمام المجلى في مطبخ البيت أنه قد رسب، لم تعاتبه. لكنه شعر بذنب عميقٍ ومن حسن حظه، أن نتائج الامتحانات ألغيت لاحقاً بسبب التفاوت الصارخ في نسبة النجاح بين ما كان يعرف بـ»بيروت الغربية» و»بيروت الشرقية» في مرحلة ما بعد أواسط السبعينيات.
في الجامعة اللبنانية وبعد اجتياح العدو «الاسرائيلي» للبلد سنة 1982، بدأ يشعر أن تبدلاً ما قد طرأ على الناس. اكتشف جواً جديداً عليه في الجامعة، لم يعد فقط اسم العائلة اشكالياً (وهو ابن رأس بيروت ما – قبل – الاجتياح، التي لم تهتم يوماً للهوية الطائفية وحيث تتعانق الجوامع والكنائس)، بل أصبح انتماؤه اشكالياً أيضاً.
«أنت من وين؟»، سمع ذلك السؤال اللعين ـ والذي سيرافقه كظلّه طوال حياته لدرجة الاختناق. استغرب السؤال! ماذا يعنون به ولماذا؟ اسمه واسم عائلته لما يدلان على أي انتماء طائفي أو مناطقي. عندما بدأ يفهم على العقول «لباطونية والماضوية» التي كانت تسأله ذلك السؤال، صار يضحك، يراوغ، يتحايل على صاحب أو صاحبة السؤال. وعندما وصل الى حافة الانهيار.. رمى بنفسه في «سلة اليسار».. هرباً من براثن الطائفية والمذهبية التي بدأت تكشر عن أنيابها في منتصف الثمانينيات بكلّ شراهية وانتهازية؟
مع انخراطه في سوق العمل، كانت المواجهة أشرس. صارت المذهبية هي اللغة السائدة و»المنطق» الوحيد المفهوم على طريقة ما يطلبه المستمعون. كاد أن «يرفع العشرة» لولا ثقافته العلمانية العميقة التي غرفها من عائلته (الأب مسلم علمانيّ والأم مسيحيّة مشرقيّة) ومن قراءاته المتعددة في الأدب والإنسانيات، ومن محيط وطني في منطقتهم، ومن بيئة مختلطة من الجيران وأهل الحي. مما أكسبه مناعة علمانية وفرت عليه الكثير من المشاكل في مكان العمل وفي زمن كانت الناس تتشاوف بقطع السلاح التي تحملها !
«الشاب من وين؟»، سأل عمّه زوجته عندما تقدّم بطلب يد ابنته.
في البداية اختلط الأمر على العم المعمر والطيب، وأعتقد أن العريس المفترض هو من «جماعتهم» يعني من «طائفتهم». مسكين وقع في فخ اسم العائلة، تماماً كما وقع هو في فخّ الامتحانات الرسمية في صباه. وعندما عرف الرجل لاحقاً بالحقيقة، «بلع الموس» وبقي لفترة طويلة يعتبره دخيلاً على العائلة.
مع تقلّب الدهر عليه، لم ينس رأس بيروت وكيف تركها مكسوراً، واستمر يعيش في بيئة صعب عليه أن يذوب فيها. بقي معاندا، مقاتلا شرسا، متسلّحاً بهواء رأس بيروت وعلمانية مشرقية صعبة المراس. قرأ وتبحر بعلي الوردي والتاريخ الإسلامي وأدبيات المذاهب، وصولاً إلى جواد علي في ملحمته التاريخية: «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام»… وصل الى معادلة: «اليوم يعني البارحة عند عامة هذا الزمن.. والباقي سخافات وقشور».
عندما توتر الوضع الأمني في منطقة سكنه وارتفعت وتيرة التفجيرات «الداعشية» التي لم تكن تميز بين عسكري أو مدني، شعر بالخوف الحقيقي على عائلته، كثرة الحواجز وعاد السؤال: «أنت من وين؟».
كم من مرّة استفزّه ذلك السؤال اللعين؟ وهذه المرّة على لسان عناصر عسكرية على الحواجز. لكنه توصل الى جواب مقنع: «أنا من بيروت، أمي مسيحية، زوجتي شيعية وأنا شيوعي سابق !»
جدّه، صاحب الطربوش الأحمر، حلّ في بيروت قادماً من حلب. من الكلاسة تحديداً. سميت هكذا لأن فيها أتانين الكلس وكان أغلب سكانها يعيشون من حرفة الكلس وقطع الحجارة من مقاطعها. كانت النسوة قديماً يحملن قدور الماء إلى أتون الكلس فيغلي على حرارة الماء ويغسلن، وكثيراً ما شوهدت قدور ملأى بالشمندر والبطاطا والبيض المسلوق على الأحجار التي تكلسها النيران.
استقر الجدّ في منطقة عائشة بكار وعمل في مهنة الحلاقة، وهي مهنة أورثها لعدد من أولاده. ثم أرسل وراء أهله كي يبنوا بيوتا صغيرة قرب داره.تزوج من فتاة بيروتية وانجب منها بنات وصبيان. كبرت العائلة، ومع تقلّب الأيام، حصلت على الجنسية اللبنانية. لكن لقب «الحلبي» استمر ملصقاً بالجدّ لفترة طويلة، خاصة أنه احتفظ بلهجته الحلبية المحببة وببرودة أعصاب لافتة وروح طيبة ومرحة.
في كتابه «موسوعة العائلات البيروتية»، يقول الدكتور حسان حلاّق إن عائلة الشاب هي من الأسر البيروتية التي تعود جذورها إلى الأسر العربية التي توطّنت في دمشق وحلب وبعض بلاد الشام. كما أن البعض يرى أنها من أصول تركية. وهو يضيف بأن بعض أجداد العائلة قد شارك في الدفاع عن بلاد الشام منذ العصور العربية الأولى، فتعرّض للأسر أحد الأجداد في عهد الحروب الصليبية. ثم تمكّن من الفرار من السجن، فأطلق عليه لقب العائلة… وهي تعني الهارب من الأسر (باللغة التركية). أما عمّه الرياضي والمعمر فيقول إنه في سفره إلى ما كان يعرف «بيغوسلافيا» أيام حكم تيتو، زار زغرب والتقى بأقارب يحملون اسم العائلة. يصرّ العم على الأصل «الأوروبي» للعائلة على قاعدة «كلّ شي فرنجي برنجي». لكن الرجل بحث كثيراً، خاصة على شبكة الانترنت، فوصل إلى أسماء في ألبانيا، وأخرى منتشرة في بلدان عدة إلى أن تواصل على «الفيسبوك» مع أحد الأقارب في حلب الذي صدمه بمفاجأة من العيار الثقيل: «نحن أصلنا من فلسطين»، «معقول؟؟!!»، كانت ردة فعله. المعلومة أتته من مصادر عديدة من العائلة في سورية وخارجاً. وأن اسم العائلة هو مجرد لقب اكتسبه أحد الأجداد، وأن اسم العائلة مختلف تماماً.
حين أخبر أقاربه في بيروت بما توصل إليه، رفض الجميع الطرح الجديد وأصروا على الأصول الحلبية ـ الكلاسية القريبة، والبوسنية ـ الزغربية البعيدة.
هو اليوم رجل تخطّى الخمسين، علماني لدرجة «الساذجة»، لأنه يعيش في منطقة من لون طائفي ومذهبي واحد. الغربة… تجربة مضنية يعيشها كل يوم، خاصة إذا استخدم حافلة الركاب في تنقلاته، أو سيارة الأجرة العمومية. من شكله، من طول أنفه، ومن لهجته… يعرفونه. ملّ هذا السؤال: «أنت من وين؟».
فاخترع الجواب ـ المعادلة الذهبية: أنا سنيّ على الهوية من بيروت، أمي مسيحية مشرقية، زوجتي مسلمة شيعية من السيّاد وأنا شيوعي سابق، متآلف مع الحزب السوري القومي الاجتماعي. لم يعد يلوم الأستاذ الذي قرأ اسمه خطأ خلال امتحانات البريفيه الرسمية وأبقاه وحيداً في ملعب المدرسة. أمثاله مقدّر لهم أن يعيشوا «سولو» في هذا البلد الجميل والملعون في الوقت نفسه.
*روائي لبناني.