سرايا بنت جبيل القديمة تتحوّل صرحاً ثقافياً
} مريانا أمين
أرادت أن تكون أنثى الجبل الرائعة، فتوضأت بندى الفجر الساكن، وتزّينت بضفائر زهرية من الأقحوان القابع عند وجنتيها، ومَشت إلى أفقها وحِنّاؤها دَمُ رامي وأبنائها الشهداء، فصبغت أصيلها، وزركشت أزقّتها العتيقة بحكايا المجد، لتكون عند كل شروق آية الصلاح وفريضة الثورة…
همسُ لياليها يَنفث عطر الرياحين، وخبايا التبع تختزن صور أبنائها العابرين نحو ملاحم البطولة، وبين جنبات الصخور يقعد ظلها متهجداً بأدعية النصر المبين، ويلتف حول خصرها زنارٌ مشغول من عبق الروح الأبيّة، لذلك كانت دائماً عروس الجنوب الأبية، وحتى أكفّها فقد صارت آلة حدباء وقبوراً متحركة تدفن فيها عتاة الجنود «الإسرائيليين».
ومَن يعبر الدرب إليها، يعرج فوق براق الثقافة، ويمتطي يراع التوليف والكتابة، فيجد نفسه داخل صرح ثقافي راقٍٍ هو مكتبة الأجيال وعمارة اللغة والذي كان قبل عام 2006 (سراي بنت جبيل الحكومي) ودُمّر خلال الحرب الهوجاء الصهيونية على لبنان من قبل العدوّ «الإسرائيلي».
دمّرَ، ثم نهضَ، ثم تألّقَ، فخالط حرف كتاباته عطر الطيون، وتجلّى فيه الحرف برونق المفتون، ليتجه لزيارته الأدباء والمثقفون والطلاب من جميع الأعمار وجميع الاختصاصات زواره من كل المناطق .أما مَن يأتي من خارج بنت جبيل، وقبل دخوله الى هذه المدينة العصماء تُلفته على الطريق، أولاً لافتة مكتوب عليها (القدس عاصمة فلسطين) و(المسافة إلى القدس تستغرق 166 كلم) معنونة باسم بلديات قضاء بنت جبيل.
وأمام الصرح هذا! يشاهد الزوار حركة تجارية ومحال وبسطات وأناساً يبيعون ويشترون، لأنهم يحاولون العيش رغم كل الظروف، فالغلاء لا يحدّ من نشاطهم وحركتهم.
هناك! نرى قامات مرفوعة كأنها رماح واقفة؛ تتحدّى شظف العيش ومرارة الحياة شعارهم من يهزم العدو الصهيوني لا شيء مستحيل لديه.
وعند دخول الزوار إلى الصرح الذي يهديهم التحية والاحترام والترحيب ساعة تطأ أقدامهم عتبة المركز فيستقبلهم موظفون لائقون لا تفارق البسمة وجوههم. ثم يجولون على غرف تحتوي على أرشيف الحالة الثقافية لبنت جبيل وقاعات للمطالعة وقاعة المرحوم الأستاذ محمد عجمي للاحتفالات والندوات والأمسيات الشعرية وتكريم المغتربين وتواقيع الكتب؛ هذه الغرف المرتبة مزينة بخزائن نظيفة وحديثة تحتوي داخلها آلاف الكتب والمراجع وأجمل مشهد في القاعة هو وجود مجموعة أطفال يطالعون الكتب المصورة مع أمهاتهم اللواتي تقرأن بدورهن كتب الثقافة والأناقة دون نسيان كتب الطهي .
وفي القاعة المقابلة يجدون باقة من الأدباء والأساتذة والمثقفين من أبناء بنت جبيل يجلسون على طاولة تزينها الصحف اليومية والمجلات، فتراهم يتحاورون ويستقبلون كل زائر بكلمات عذبة تُقدم له هدية ساعة وصوله؛ ويكون هذا خاصة صباح يوم السبت من كل أسبوع ليكون كصالونٍ أدبي أسبوعي ينطلق في الساعة الحادية عشرة؛ حيث يكون أول الحاضرين أمين سر المكتبة الكاتب الدكتور»مصطفى بزي»؛ ومن المرتادين الدائمين أعضاء (المنتدى الأدبي للثقافة والعلوم) والرابطة الثقافية لأبناء بنت جبيل بمشاركة أصدقائهم من الأساتذة والأدباء .
فلا تخلو الجلسة الصباحية من حوار مألوف بين هذا وذاك والقاء الضوء على الحدث اليومي ولا يغيب عن بالهم أرباب الفساد والهدر وهم يفاخرون بصور أجدادهم المعلقه إلى جدران المكتبة ليعطيهم الدفع المعنوي وهم ينهلون من نبع النضال والارادات الصلبة لابائهم وأجدادهم… فهم مجموعة مثقفة يتوارثون المجد جيل بعد جيل بكل حناياه. كيف لا وبنت جبيل كانت ملجأ الضائع والسيف الساطع على رقاب من يمسّ أرضهم بسوء ومن تحدثه نفسه بالظلم والاستبداد.
أما نساؤها! ففوق أكفّهن ولد العطر قبل أن تنبت شتلة التبغ في تربتها، وتموضعت سمرة الشمس فوق وجوههن قبل اصفرار قمح البيدر في أويقات الحصاد، وفوق شفاههن قام الحرف فكان معلم أولادهن قبل المدارس والمعلمين.
وأختم لأقول: إن درايتي البسيطة ومعرفتي بثلة من أبنائها جلعتني أفخر أني يوماً ما التحفت شمسها، وشربت ماءها، وتشرفت بانتمائي الى حرفها، وماشت نظراتي سطور العشق في مكتبتها القيمة والغنية. ولن أخفي القول بأني تمنيت لو أكون فدائية وجندية أذود عنها بالقلم وأشارك أهلها بالوجع والألم، فشكراً مدينتي الثانية والتي احتلت مساحة العشق في ذهني ووجداني.