التحوّلات الجيوسياسية شمال شرق سورية وتصدّع المعادلات التركية
} أمجد إسماعيل الآغا
ربطاً بسلسلة المنجزات التي يحققها الجيش السوري، تشي التصريحات الروسية والتركية، بأنّ العلاقات بين البلدين باتت في حيّزها الأخير، وأنّ مروحة التصعيد ستتسع لتصل باتساعها حدّ التصادم العسكري. لكن في المقابل هو تصعيد يفضي إلى تهدئة وتفاهمات، خاصة أنّ الكثير من الملفات الاقتصادية وكذا السياسة تجمع البلدين، فضلاً عن أنّ معاني التصادم العسكري بينهما، قد تؤسّس لمرحلة استراتيجية جديدة تعود بالنفع لـ واشنطن.
ضمن جدول زمني حدّده رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، حيال انسحاب الجيش السوري من المناطق التي سيطر عليها مؤخراً، والتي أفضت إلى حصار النقاط التركية، تتكثف حركة الاتصالات بين موسكو وأنقرة، مع ازدياد في حدة التصريحات، في مشهد يبدو مشابهاً لمستوى التصعيد الذي شهدته العلاقات بين الطرفين، مع بدء التدخل العسكري الروسي في سورية في العام 2015، لا سيما بعد إسقاط الأتراك طائرة سوخوي 24 في خريف العام نفسه.
وعلى الرغم من التأكيدات الروسية التركية لجهة الالتزام المتبادل، بما تمّ الاتفاق عليه في استانا وسوتشي، إلا أنّ الوقائع تفرض صورة مغايرة لهذه التأكيدات، خاصة أنّ مستوى التصريحات تجاوز سقف التفاهمات بين الطرفين. ومن جهة أخرى، فإنّ المخاوف الناجمة عن حالة الكباش السياسي بين موسكو وأنقرة، تذهب باتجاه المزيد من التعقيدات في مشهد الشمال السوري، ففي حين يستمرّ أردوغان بتصعيد خطابي متهماً روسيا بتقديم الدعم الجوي للجيش السوري، يذهب أيضاً باتجاه ترامب مطالباً إياه بمواقف أكثر جدية حيال الدولة السورية، وفي ذات الوقت، يطالب حلف شمال الأطلسي بدعم تواجده العسكري في شمال سورية.
في المقابل، من الواضح أنّ موسكو تمارس أقصى درجات ضبط النفس حيال الممارسات التركية، لكن يبدو أنّ روسيا دخلت في مرحلة نفاذ الصبر، حيث بدأ الجيش الروسي يتهم صراحة أنقرة، بتزويد الارهابيين في إدلب بالمعدات العسكرية وتوفير الغطاء المدفعي لبعض عملياتهم، في وقت تحدّث السفير الروسي في تركيا أندريه يرخوف عن تهديدات أمنية يتلقاها، على نحو يعيد الى الأذهان واقعة اغتيال سلفه أندريه كارلوف في كانون الأول/ ديسمبر 2016.
ما بين التصريحات التركية ومثلها الروسية، هناك هامش يشي بعودة التفاهمات بين الطرفين. هو هامش مرتبط بالمشاريع الاستراتيجية بينهما، لا سيما في مجالي الغاز والطاقة النووية، فضلاً عن الاتفاقات العسكرية التي
أفضت الى حصول تركيا على منظومة «أس – 400» للدفاع الجوي، في صفقة أدّت إلى تدهور علاقات أنقرة مع واشنطن.
يبدو أن ّنسق التصريحات التركية، عبارة عن دعوات مبطنة للتفاوض من جديد، والدفع بإتجاه التصعيد العسكري التكتيكي، للوصول إلى مضامين التسويات السياسية، إذ لا يمكن أخذ تهديدات أردوغان حيال الجيش السوري على محمل الجدّ، فالمهلة الأردوغانية المجدولة نهاية شهر شباط الحالي، تبقى مجرد قنبلة صوتية، ولن تتحوّل إلى قنبلة حقيقة، لا سيما أن مسمار أمانها تحكمه عقبات ثلاث…
الأولى: تتعلق بالداخل التركي، خاصة أنّ معارضي أردوغان ضاقوا ذرعاً بممارساته وسياساته، حتى أنّ بعض مؤيديه ينظرون إلى سياساته الخارجية بعين الترقب، وعليه سيشكل هذين المعطيين عامل كبح ضدّ رئيس متهوّر.
الثاني: أردوغان يدرك تماماً أنّ الرئيس بشار الأسد عاقد العزم على استكمال تحرير الجغرافية السورية، مع الذهاب بعيداً في أيّ مواجهة محتملة مع تركيا، خاصة أنّ روسيا وإيران تمثلان عامل دفع إضافي للرئيس الأسد، لجهة الاستمرار بعمليات تحرير المدن والبلدات من الإرهاب، ما يعني أنّ تركيا لن تصطدم بالجيش لسوري فحسب، بل سيكون في المقابل خسارة تحالفات ومشاريع ايرانية روسية.
الثالث: حين طالب أردوغان حلف شمال الأطلسي بدعم عملياته العسكرية في سورية، جاءه دعم معنوي فقط، حتى واشنطن أعربت عن تضامنها مع أردوغان عبر عبارات تستنكر ما يقوم به الجيش السوري والصمت الروسي حيال ذلك، وهذا يعني بالمضمون أنّ أردوغان سيعيد حساباته مجدّداً لجهة مهلته العسكرية.
كلّ ما سبق من معطيات يؤكد بأنّ الشمال السوري، بات في قبضة الدولة السورية وجيشها، وهذه حقيقة تدركها تركيا جيداً، ولكن تحاول أن تتجاوزها «بمعية روسيا»، إذ لم يعد خافياً أنّ أردوغان ورغم تبنّيه الخطاب المتشدّد ضدّ روسيا وسورية، إلا أنّ صورة الرجل القوي لم تعد تليق به، خاصة أنّ الأسد ومعه أبطال جيشه قد أحدثوا شرخاً في ماهية تطلعات وأحلام أردوغان، فضلاً عن تقليم أظافره في عموم الشمال السوري.
بيد أنّ أردوغان يسعى إلى ترميم صورته عبر مكسب سياسي يقيه أعداءه في الداخل التركي، وكله يقين بأنّ بوتين وحده القادر على إخراجه من بوتقة أزماته، فهو على ثقة بأنّ العلاقات الروسية – التركية مهمة للكرملين بما فيه الكفاية، على الرغم من انخفاضها بشكل ملحوظ في الفترة الأخيرة.
في المحصلة، صحيح أنّ روسيا شريكة استراتيجية للدولة السورية، إنما الصحيح أيضاً، أنّ روسيا بحاجة لمواءمة مصالحها ما بين دمشق وأنقرة، ما يعني بالمنطق السياسي، أنّ أساسيات التسوية تفترض إخراجاً دراماتيكياً لمفردات الصراع، خاصة أنّ أردوغان ذهب بعيداً في تهديداته حيال المنجزات السورية والدعم الروسي، وبات من الأهمية بمكان أن يعيد حساباته الاستراتيجية في سورية، وصار لزاماً عليه أن ينزل سريعاً عن شجرة التصعيد.
نتيجة لذلك، وتجنّباً للسيناريو الأسوأ المتمثل بتصعيد عسكري واسع النطاق بين دمشق وموسكو وأنقرة، يتعيّن في هذا المناخ مواكبة الحقائق الجديدة التي فرضها الجيش السوري، والذهاب نحو نسج خيوط سياسية جديدة تفضي إلى تفاهمات واتفاقات، فالمعادلة الواجب إدراكها تركياً، أنّ أيّ مغامرة عسكرية تركية ضدّ الجيش السوري، ستكون عواقبها كارثية النتائج على أنقرة، خاصة أنّ روسيا لا يمكنها فضّ علاقتها الاستراتيجية مع دمشق.
في هذا الإطار، ومن زاوية الأمر الواقع الذي تحكمه معطيات شمال شرق سورية، لا بدّ من الإقرار بأنّ استعادة الدولة السورية لجغرافيتها بشكل كامل، لن يتمّ دون المرور بتفاهمات سورية روسية تركية، وثمة حاجة لمواءمة روسية بين سيادة دمشق ومصالح أنقرة، دون السماح بتخطي عتبة السيادة السورية.
أمام هذا الواقع، بات من الجليّ أنّ أردوغان لا يتمتع بهامش مناورة كاف ليفرض من خلاله حقائق جديدة حيال مشهد شمال شرق سورية، فالجيش السوري بات ممسكاً بخيوط المسارات الإقليمية والدولية الناظمة للمشهد السوري، وعليه يبدو أردوغان مضطراً للاعتراف بالواقع والذهاب نحو مصالحة دمشق.