دائرة التشظّي في «الومضة»: كسر «المرجعيّة»
} د. كامل فرحان صالح *
تشترك النصوص الإبداعية في الأدب الوجيز بسمات عامة، يمكن إيجازها بالآتي: التكثيف، والإيجاز، والاتساع الداخلي للطاقة الشعورية، وفتق آفاق التخيل، وكسر أنماط الحواس الخمس، والمعنى في النص يحدد شكله الخاص، والدهشة والمفارقة.
وقد ارتسمت هذه السمات العامة، بعد نقاشات استمرّت في غير جلسة، عقدتها جماعة ملتقى الأدب الوجيز في لبنان في أواخر العام 2019 وبدايات العام 2020.
وفي ما جرى التوافق مبدئيًّا، على السمات العامة، كذلك وضعت سمات خاصة لكل من: الومضة، والقصة الوجيزة.
أما سمات الومضة فترتكز على: الإيحاء، والبُعد التّخيليّ التشاركيّ، وطاقة المفردة (21 كلمة)، والاتساع الداخلي للغة، والإيقاع الداخلي، والرؤيا، والدائرة المتشظيّة.
في المقابل، ترتكز السمات الخاصة للقصة الوجيزة على: تنامي الحدث، وشخصيّة أحادية، ونموّ الأفعال، ودائرة مفتوحة على ألا تتعدّى 21 كلمة من دون أدوات الربط، والجمل القصيرة، والبُعد التشاركي في إنتاج المعنى بين المؤلِّف والقارئ.
لكن ما يسعى البحث إلى تناوله في هذا المقام، هو خاصية «دائرة التشظي» في الومضة، إذ تعدّ مفتاحًا من مفاتيح المساعدة لبناء جسور التواصل بين الأدب الوجيز عمومًا والومضة منه خصوصًا من جهة، والقارئ/ المتلقي من جهة أخرى.
يمكن القول إن مقاربة النص الإبداعي اليوم وتحديدًا الومضة، لم تعد في الإمكان، مقاربته مقاربة تفسيرية إفهامية؛ فالومضة ليست مادة تهدف إلى تقديم «حقيقة»، أو «تفسّر شيئًا»، أو لها «وظيفة نفعيّة»، وهي من الواضح، ترفض ضمنًا، كل ما يمتّ إلى حالات تعدّ إجابة عن سؤال، أو تطرح نوعًا من «طمأنينة ما».
تقود هذه الخصوصيات الواجب أن يعيها المرء مسبقًا في ما يخصّ الأدب الوجيز عمومًا والومضة خصوصًا، إلى السمة الأخطر والأبرز التي حكمت العلاقة لسنوات طويلة، بين «الثلاثية المقدسة»: المبدع – النصّ – المتلقي، وهي الكامنة في سياقات أثقلت غير نصّ من النصوص الإبداعية سابقًا، فجعلته لا يقول «قوله»، بل أن يحيل النصّ إلى «ما هو مقول»، وأقصد ربط النصّ الإبداعي بأيديولوجيا ما، أخرجته (حكمًا) على ألا ينطق عن عوالم المبدع الخاصة، ومقاربته الذاتية لـ»أناه»، وللمجتمع والكون، وإن بدا ذلك في النص، إنما كان النصّ (عبر مختلف المذاهب الأدبية) يخضع إلى «الغاية المنشودة»، وهي أن يتضمن: رسالة/ خطابًا، يريد المبدع أن يقوله «أخيرًا»، ويحكمه ذلك بأن يضع نصّه الإبداعي، في «الدائرة الكاملة»، المحكمة، المعززة بإشارات وسمات ورموز… لم تعد ترتكز على «لا نهائية» دلالة النص، بل باتت، ونتيجة الاستخدام المتكرر لحقول معجمية محددة غالبًا: «نصًّا جاهزًا للإجابة»!
الومضة من هذه الزاوية، ليست نصًّا جاهزًا للإجابة، وليست «دائرة كاملة» يحيل أولها إلى آخرها، وليست خطابًا أيديولوجيًّا حكمًا، وبالضرورة، وليست «محاكاة» أفلاطونية أو أرسطية، فهي لا تريد أن تقدم حلولاً، ولا أن تلقي موعظة، ولا هدفها أن تصدر أحكامًا، أو أن تقدم «طمأنينة» ما لقارئ ما… الومضة هي عالم من التشظي اللانهائي في دلالاته، هذا العالم الذي يمكنه أن يعبر إلى «المابعد»، ليس بهدف «الاستقرار» أو «الراحة»، إنما بهدف طرح السؤال الدائم والمستمر والمتشظي في ظل وجود إنساني يعمل باستمرار على تحويل «ركائزه» المستقرة، إلى «ركائز» ممكنة/جديدة، ليبقى، وليقدر على الوقوف في لحظة ما على أرض دائرية لا استواء فيها.
لا تنتظر «الومضة» «استيعابًا ما»، أو «مرجعية ما»، بل هي تحتاج إلى «فهم ما»، يمكنها أن تفتح عوالم ذاتها لإمكانيات الحفر التي تقود حكمًا إلى «دوائر لا تنتهي»/ متشظية، تتمتع باستمرار، بقدرة أن تكون دوائر خاصة لقارئها، كما هي دوائر خاصة لمبدعها.
إن الدائرة المتشظية في الومضة، لا تبتعد من المعنى الفيزيائي/الطبيعي لـ»التشظّي»، أي:
«انفجار نواة ذرَّة تحت تأثير قصف جُسيميّ لها على درجة كافية من الشدَّة، تتفتّت من جرّائه النواةُ وتتطاير منها جسيمات».
ويبدو هذا المعنى هو الأقرب إلى المقصود، بحكم أن الكلمة هي روح الومضة وجسدها، وبحكم أن الكلمة في الومضة، لا تكون وفاق معناها التعييني إنما التضميني، وبحكم أن الومضة تفترض وجود «قارئ» لا ينتظر منها أن تجيبه عن سؤال ما، أو تريد أن تسوّق له «مرجعية ما»، وبحكم أن هويّة الأدب الوجيز عمومًا، هي التخطيّ المستمر لأنماطٍ تعبيريّة وفكريّة، فإن المهمة المنتظرة من القارئ وحسب، هي أن «يقصف» الكلمة/ الومضة، أن يفتتها، ليستمتع بتتطاير جسيماتها.
الومضة لا تقتصر على كونها «مجرّد اختصار للكلام»، بحسب الباحث والأكاديمي الفرنسي برنارد روخوموفسكي (Bernard Roukhomovsky) في كتابه: «قراءة الأشكال الوجيزة» (lire les formes brèves )، إنما الكلمة في الومضة هي «عناوين تختزل جملاً»، بحسب الباحث والأكاديمي الفرنسي آلان مونتاندون (Montandon Alain) في كتابه «الأشكال الوجيزة» (Les formes brèves).
ولعل اللافت في الأمر، (وهذا يحتاج إلى بحث آخر)، أن تاريخ النقد العربي يلحظ أهمية الإيجاز والتكثيف في الإبداع، وهما السمتان الأبرز في الأدب الوجيز عمومًا، وفي الومضة خصوصًا، وقد سعى النقد العربي القديم، ضمن مسارات زمنيّة متباينة، إلى رسم سمات الإيجاز وعلاماته وإشاراته في غير كتاب، ومن ذلك ما يقوله الجاحظ (القرن التاسع الميلادي)، مثلاً: «الإيجاز أسهل مرامًا وأيسر مطلبًا من الإطناب»، مؤكدًا أنه من «قدر على الكثير كان على القليل أقدر»، وذلك في رسائله وتحديدًا الرسالة السابعة عشرة (رسائل الجاحظ، طبعة: دار الحداثة، بيروت).
وقد سُئل الشاعر الأموي الفرزدق (القرن السابع الميلادي): «ما صيّرك إلى القصائد القصار بعد الطّوال، فقال: لأنّي رأيتها في الصّدور أوقع وفي المحافل أجول» (ينظر: أبو الهلال العسكري: كتاب الصناعتين: الفصل الأول من الباب الخامس، طبعة: دار الكتب العلمية، بيروت، ص. 137).
وإذا ثمّة الكثير يمكن أن يُقال في هذا الجانب، يبقى القول: إن معظم النقاد العرب في العصرين الحديث والمعاصر، لم يركنوا إلى تراثهم النقدي القديم، بهدف رسم سياقات نقدية توائم حاجات الإبداع والمبدعين اليوم، فاقتصر عملهم على «التوصيف» و»التحليل»، ونشاط أكاديمي لم يخرج لـ»يتنفس الحياة»، هذه الحياة التي تخرج على معجميّة الكلمة، لتتشظى باستمرار وأبدًا، إلى جسيمات من المعاني، والدلائل، والحقول، والآفاق اللانهائيّة.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية.