مناورات الناتو: مؤشر على تغيّر موقف ترامب من جدوى الحلف*
لم ينقطع قلق النخب السياسية الأميركية لـ “مستقبل حلف الناتو”، خصوصاً بعد نهاية الحرب الباردة. قلة تطالب بحلّه وآخرون ذاهبون باتجاه تطويره وتوسيع رقعة تمدّده خارج نطاقات مسرحه الأساسي في ألمانيا. وانضمّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، منذ تسلّمه مهامه الرئاسية، للفريق الأول بوصف الحلف بأنه “عفا عليه الزمن”، ليبتزّ أعضاءه لاحقاً.
تميّز المناخ السائد بين تلك النخب وإفرازاتها الفكرية والسياسية وحتى العسكرية بالنزعة العدوانية وإظهار “تفوّق القوة الأميركية” لردع كلّ من تسوّل له نفسه تحدّيها عبر العالم؛ نزعة طبعت التخطيط الاستراتيجي الأميركي عقب الحرب العالمية الثانية بشكل ملموس.
وذلك على الرغم من “تواضع الإنجازات العسكرية.. فمنذ الحرب الكورية، لم تنتصر الولايات المتحدة في أيّ حرب ضدّ أيّ عدو، وهذا يكشف عن خلل في التطبيق الفعلي للقوة العسكرية الأميركية في العالم”، وفق وصف المؤرّخ العسكري أندريه مارتيانوف في كتابه فقدان التفوّق العسكري، 2018.
رسا قرار المؤسسة الأميركية الحاكمة، بعد تردّد البيت الأبيض، على الاستمرار بتوسيع نطاق عمل الحلف ورفده بأعضاء جدد أغلبهم في الدول الاشتراكية السابقة، بولندا مثالاً، وانضمام “دولة الجبل الأسود”، التي يبلغ عديد قواتها المسلحة 2000 عنصر لا غير؛ ومناشدتهم أوروبيّي الحلف لتبوّؤ مهام عسكرية خارج أوروبا.
حافظ الرئيس الأميركي ترامب على تنويع ابتزازه للدول الأوروبية المركزية، ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، لزيادة إنفاقاتها العسكرية مقابل “الحماية الأميركية”، واستجابت لطلبه بعد تردّد مما حفّز البيت الأبيض على تجديد التزامه بحلف الناتو.
تحدث الرئيس الأميركي هاتفياً مع رئيس حلف الناتو، جينس شتولتنبيرغ، 8 كانون الثاني/ يناير الماضي، “مطالباً بتوسيع نشاط الحلف إلى الشرق الأوسط؛ ورفد الجهود لمكافحة الإرهاب الدولي”.
في السياق عينه، عقد حلف الناتو “مؤتمر ميونيخ للأمن – 2020” منتصف الشهر الحالي، أثار جدلاً عميقاً بين الأوروبيين بعد خطاب وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، بإصراره أنّ “الغرب ينتصر”، كمحفّز دعائي لموازاة توجهات الحلف مع الاستراتيجية الأميركية لمحاصرة الصين وروسيا وإيران.
الأوروبيون من جانبهم استهجنوا فرط تفاؤل بومبيو في تطورات الصراع العالمي، وبرز مصطلح توجه العالم “للإقلاع عن الغرب – Westless”، في أروقة المؤتمر، في محاولة لتحذير الضيف الأميركي فوق العادة.
من جملة ما أبلغ بومبيو الحلفاء أنّ بلاده “تقاتل إلى جانبكم لبسط السيادة والحرية” في العالم، مما استدعى رفض عدد من القادة الأوروبيين واعتراضهم على زعم واشنطن بصون “سيادة” الدول، وهم المعنيين بالدرجة الأولى للتخلي مكرهين عن سيادتهم.
وأضاف بومبيو في خطابه أنّ “الغرب الحرّ على أعتاب مستقبل أكثر سطوعاً مقارنة مع البدائل المناهضة لليبرالية. نحن ننتصر – وننجز ذلك سوياً”.
رصدت وسائل الإعلام تكرار بومبيو لمصطلح “ننتصر” ثماني مرات في خطابه القصير، نعته أحد الأوروبيين بأنّ بومبيو “كان أقرب إلى زوج يمارس العنف العاطفي ضدّ شريكته المعتدى عليها”، موضحاً أنّ أوروبا هي بمثابة الزوجة المعتدى عليها. (نشرة ديفينس وان، 21 شباط).
الاستراتيجية المتجدّدة لحلف الناتو أوضحها رئيس الحلف، شتولتنبيرغ، 15 كانون الثاني/ يناير الماضي، بأنّ “الولايات المتحدة والناتو تعززان وجودهما العسكري في أوروبا” لمواجهة روسيا والصين. واستطرد مطمئِناً أقرانه بأنّ أميركا تحتفظ بقوات عسكرية في دول أوروبا الحليفة “أكثر من أيّ وقت مضى منذ انهيار الاتحاد السوفياتي” عام 1991.
الحلف في المفهوم الرسمي الأميركي لم يعد يتلطّى بمزاعم وجوده لأسباب “دفاعية”، كما درجت العادة خلال الحرب الباردة؛ بل ارتدى عباءة عسكرية عدوانية تحركها واشنطن لتقويض ومحاصرة روسيا، كما شهدنا بمشاركة بريطانيا وفرنسا في قصف أهداف داخل سورية.
وأعلن الحلف عن البدء بمناورات عسكرية ضخمة غير مسبوقة، في آذار المقبل، تحت مسمّى “المُدافع عن أوروبا – 2020” هي الأكبر والأشمل منذ 25 عاماً؛ ستشارك فيها الولايات المتحدة بقوات إضافية تستقدمها من قواعدها داخل أراضيها، قوامها 20.000 عنصر، تضاف للقوات الأميركية الموزعة في أوروبا ليصل الإجمالي الأميركي إلى نحو 37.000 عسكري، بينما مجموع القوى المشاركة سيبلغ نحو 40.000 عنصر أو أكثر.
القيادة العسكرية الأميركية لأوروبا أوضحت على موقعها الالكتروني الأهداف المضمرة للمناورات الضخمة بأنها “.. ستدعم الأهداف التي حدّدها حلف الناتو للارتقاء بالجهوزية داخل التحالف ولردع الخصوم المحتملين”؛ أيّ الإعداد لحرب محتملة مع روسيا.
أوضح القادة العسكريون الأميركيون أنه من المرجح أن تصبح مناورت “المُدافع” طقساً سنوياً يعقد مرتين كلّ عام؛ يتمّ تدويرها بين أوروبا وفي المحيط الهادئ.
سارع رئيس الحلف شتولتنبيرغ لتبديد مخاوف روسيا بالزعم انّ المناورات “.. ليست موجهة ضدّ دولة محددة”، 3 شباط الحالي.
في اليوم التالي، 4 شباط، ردّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بقوة موضحاً أنّ “المخاطر والتهديدات التي تواجهها البشرية بلغت ذروتها مستويات لم نشهدها من قبل خلال مرحلة ما بعد الحرب” العالمية.
وشدّد لافروف على أنّ “روسيا ستردّ على المناورة العسكرية الأميركية في (أوروبا).. لكنها ستعمد لتفادي أيّ مخاطر غير ضرورية”.
وزير الخارجية الصيني كان أشدّ حدة من نظيره الروسي إذ “أدان الغرب لعقليته الباطنية التي تنشد التفوّق الحضاري”.
الردّ الصيني القاسي كان موجهاً لوزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، لزعمه بأنّ “مفهوم الغرب لا يحدّده مكاناً أو قطعة أرض معينة؛ بل أيّ دولة (أمة) تتبنّى نموذج احترام الحريات الفردية والسوق الحر والسيادة الوطنية. إنها جزء من هذا الفهم للغرب”. مستطرداً أنّ مفهوم “السيادة يعزّز عظمتنا (تفوّقنا) الجماعية”.
التقرير الختامي لمؤتمر ميونخ للأمن جاء متسقاً مع توجهات واشنطن العدوانية عبر إشارته الصريحة إلى حقّ دول الحلف التدخل بالقول “.. في عصر ما بعد الحرب الباردة، تمتعت التحالفات التي يقودها الغرب بحرية التدخل في أيّ مكان تقريباً؛ وفي معظم الأحيان لقيت تأييداً من مجلس الأمن الدولي.”
ستجري مناورات حلف الناتو التي ستمتدّ لنحو شهرين بمحاذاة الحدود الروسية وروسيا البيضاء/ بيلاروسيا، التي أعرب وزير دفاعها في مينسك، أندريه راكوف، عن قلق بلاده العميق نظراً “لتزايد الحضور العسكري للناتو في دول مجاورة وتضخمه 13 مرة خلال ست سنوات، ارتفع فيها عدد القوات من 550 عنصر إلى 7.000 عسكري، وتضاعفت المعدات العسكرية المختلفة خمس مرات..”
ولفت وزير الدفاع إلى زيادة الإنفاق العسكري لدول الحلف “المجاورة” لبلاده عما كانت عليه سابقاً، منها “بولندا بنسبة 30%، ليتوانيا مرتين ونصف، ولاتفيا ثلاثة أضعاف”.
في المثلث الاستراتيجي بين بولندا وليتوانيا تقع مقاطعة كالينينغراد الروسية، التي كانت جزءاً من أراضي الاتحاد السوفياتي السابق، يعتبرها حلف الناتو “بؤرة روسيا في أوروبا”، نظراً لعدم وجود حدود مباشرة لها مع روسيا الأمّ.
استضافت المقاطعة 4 مباريات لكأس العالم عام 2018، ويتخذ اسطول بحر البلطيق الروسي من كالينينغراد مقراً لقاعدته الحربية.
ارتبطت كالينينغراد تاريخياً بروسيا منذ عام 1758، ووافق الحلفاء على تبعيتها لروسيا مع نهاية الحرب العالمية الثانية.
تعرّضت المقاطعة لاختراق أجوائها والتجسّس على القاعدة البحرية الروسية من قبل مقاتلات وطائرات تتبع حلف الناتو “800 مرة خلال عام 2019”، نظراً لأهميتها القصوى واعتبار الناتو لها “تهديداً أمنياً” لأعضائه.
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أعرب مراراً عن توجهه لبناء قوة عسكرية أوروبية، بديلة عن حلف الناتو الذي “مات دماغيا”، كانون الأول/ ديسمبر الماضي. بيد أنّ الوقائع العملية تشير إلى ارتهان الموقف الفرنسي وتبعيته التامة لأميركا، أبرزها شنّ سلاح الجو الفرنسي غارات داخل سورية دعماً للحليف الأكبر، وستشارك بلاده بفعالية، إلى جانب ألمانيا، في مناورات الحلف المذكورة.
تركيا من جانبها استثنيت من المشاركة في مناورات الحلف الذي تعمّد إشراك جارتها جورجيا في مناورات تجريها قوات المظليين على أراضيها. السبب، على الأرجح، تعبير واشنطن وألمانيا عن ضيق ذرعهما بابتزازات الرئيس التركي أردوغان وإبلاغه بأنّ الحلف قادر على إجراء مناوراته في المنطقة دون الحاجة لدعم تركيا.
أهداف واشنطن بمحاصرة روسيا وربما افتعال حرب معها لا تتسق بالضرورة مع مخاوف الأوربيين، لا سيما ألمانيا وفرنسا، والخشية الفعلية من انتهاج سياسة عدائية تجاه موسكو. بيد أنّ القرار النهائي يبقى رهينة لواشنطن وابتزازها الدائم لحلفائها المخلصين.
تجدر الإشارة إلى الطوق العسكري الأميركي المحكم ضدّ روسيا والصين قوامه 400 قاعدة عسكرية “منتشرة من شمالي استراليا مروراً بمياه المحيط الهادئ وانتهاء بأسيا الوسطى وشرقها”؛ ودول أوروبا الشرقية السابقة، فضلاً عن القواعد الأميركية في تركيا.
روسيا أيضاً كشفت نوايا الحلف بقيادة واشنطن لاستهداف الصين عبر تصريح للناطق بلسان وزارة خارجيتها، ماريا زاخاروفا، 16 شباط الحالي، محمّلة الحلف مسؤولية “تصنيف الصين كخطر يهدّد البشرية جمعاء.. وتضمّنت خطابات مؤتمر ميونخ نزعة لإحياء الطابع الاستعماري/ الكولونيالي للغرب..”
في هذا السياق، ينبغي العودة لجذور السياسة الخارجية الأميركية التي تبلورت مع نهاية الحرب العالمية، بنشر واشنطن “مبدأ ترومان”، عام 1948 الذي ينص على الارتكاز للقوة العسكرية الصرفة في تحقيق الأهداف الأميركية.
وأوضح مُعِدّ المبدأ ومدير التخطيط السياسي في وزارة الخارجية، جورج كينان، توجه بلاده “إذ ينبغي الإقلاع عن الحديث برفع مستوى المعيشة والدفاع عن الحقوق الإنسانية وتجذير الديمقراطية. الزمن الذي سنضطر فيه لتطبيق القوة العسكرية الصرف ليس بعيدا”، مناشداً صنّاع القرار بعدم “التقيد بشعارات مثالية”.
بعبارة أخرى، تسعى واشنطن لمنع تعدّد القطبية الدولية، نتيجة التطورات الدولية والإقليمية في القرن الحالي؛ ويعتقد ترامب المهووس بعظمة أميركا أنّه سيتمكن من تكريس “القطب الواحد المهيمن على العالم” عبر القوة العسكرية المجردة.
*مركز الدراسات الأميركية والعربية