إنْ لم نغيّر الواقع فسيأتي من يملأ الفراغ ويقوم بالعمل
سعادة مصطفى أرشيد _
ما هي إلا أسابيع قد انقضت على الإعلان الأميركي –الإسرائيلي عن مشروعهم الذي أطلق عليه اسم “صفقه القرن” (صفقه ترامب)، إلا وقد تلاشى مفعول الردود الفلسطينية الرسمية الغاضبة والمندّدة بهذا المشروع والمهددة إسقاطه، حتى عادت الأمور إلى سابق رتابتها، فقد تراجعت تلك النبرة ولم تعد لازمة حديث كلّ مسؤول، بل بدأنا نسمع بعض الأصوات الرسمية الداعية إلى النظر إلى الجزء المليء من كأس صفقه ترامب (إنْ كان في قعر الكأس بقية)، ولم تغيّر السلطة جوهرياً أو شكلياً من أدائها المعتاد أو في خطابها الذي استعاد هدوءه، كما بدا أنها عصية على أن تتغيّر مهما واجهت من محن. التنسيق الأمني لا زال بوتائره السابقة (على مستويات رفيعة وفق ما يقول الأميركي والإسرائيلي) والعلاقة والاتصال مع الأميركان و”الإسرائيليين” من محبي السلام ومبغضيه على حالها، وأشكال التطبيع قد أخذت جرعة دعم جديدة منذ أيام، حيث زوّدهم الرئيس الفلسطيني بغطاء الشرعية، حين استقبل رئيس وأعضاء “لجنة التواصل مع المجتمع الإسرائيلي” والذين كان لهم نشاط تطبيعيّ مؤخراً جوبه بردود فعل شعبية حادة، وذلك في مقرّ الرئاسة وشدّ على أيديهم واعتبرهم أبطالاً وشجعاناً، اخترقوا خطوط الخصم وأوصلوا رسالة الشعب الفلسطيني المحبّ للسلام.
من جانب آخر أبدت الحكومة الفلسطينية مزيداً من الارتخاء والارتماء، حيث أوقفت العمل بقراراتها السابقة الداعية إلى وقف استيراد بعض السلع من الجانب “الإسرائيلي”.
في الثالث من آذار القريب ستجري الانتخابات البرلمانية في الداخل الفلسطيني، حيث تستعر المعركة الانتخابية بين نتنياهو وفريقه وبين غانتس وفريقه، تدور الدعاية الانتخابية للفريقين حول مَن منهم أكثر غلواً وتطرفاً، ومن منهم يفوق منافسه عدوانية وشراسة، ومن منهم أكثر رفضاً للقبول بحلّ الدولتين او بإقامة دولة فلسطينية حقيقية، كما يتنافسون في قدرة كلّ منهم على اختراق جدار المقاطعة العربية المتهاوي أصلاً والسير نحو مزيد من التطبيع مع العالم العربي وفي المزيد من التشدّد في الشأن الفلسطيني.
في الوقت ذاته تتسارع خطوات الحكومة “الاسرائيلية” نحو تنفيذ بنود “صفقه ترامب” على أرض الواقع من دون أن تجد لها أية معيقات لتفرض أمراً واقعاً يكون من الصعب تجاوزه تفاوضياً في المستقبل، فتهويد القدس لا يجد من يعيقه والتضييق على سكانها الأصليين يبلغ مراحل لا تحتمل وعمليات شراء العقارات في البلدة القديمة على قدم وساق، ولم نسمع شيئاً عن النتائج التي توصّلت لها لجان التحقيق في العقارات التي تسرّبت الصيف الماضي والتي شكلتها السلطة الفلسطينية، أما عمليات مصادرة الأراضي وإغلاقها في ما تبقّى من الضفة الغربيّة ففي حالة تسارع باتجاه المناطق التي تضمّها الصفقة لدولة الاحتلال، ومنذ أيام قام الجيش “الإسرائيلي” بتعليق لافتات على أبواب عديد من القرى الفلسطينية المحاذية للمناطق التي سيتمّ الإعلان عن ضمّها وذلك باللغات العبرية والعربية والإنجليزية تقول: أنت تدخل إلى منطقة الدولة الفلسطينية، هذه المنطقة هي جزء من الدولة الفلسطينية المستقبلية وفقاً لـ “صفقة القرن”.
هذه إذن هي الدولة الفلسطينية الموعودة وبما أنّ الكلام يطلق أحياناً على عواهنه وبلا مسؤولية، فمن الممكن إطلاق صفة دولة على هذا الكيان لا بل وما هو أكبر وأعظم من دولة، ولكن الحقيقة التي لا يغطيها غربال الباطل ترى أنّ هذه (الدولة) وفي مرحلتها الأولى التي تطلّ علينا بملامحها لا تمثل الحدّ الأدنى لمفهوم أو تعريف الدولة، فهي منزوعة من السلاح اللهم إلا الخفيف (الشرطيّ)، فاقدة للسيادة على أرضها، ممنوعة من الدفاع عن مواطنيها، محرومة من ثرواتها ومياهها، يتواجد جيش الاحتلال على حدودها فيما يسيطر موظفوه على معابرها ويملكون حق السماح والمنع في القدوم والمغادرة لمن يريدون ومتى رأوا ذلك، اقتصادها وماليتها مرهونان لنظم جباية الاحتلال وكرم المانحين، مناهجها التربوية مكرهة على تزييف حقائق التاريخ وثوابت الدين، وفوق ذلك كله مقطعة الأوصال فاقدة الاتصال بين فتات أجزائها، ناهيك عن الغموض الذي يحيط بمكان عاصمتها والتي وإنْ كان اسمها القدس إلا أنها لن تكون في القدس.
هذه الصورة لا تذهب بالتشاؤم إلى منتهاه وإنما تحذّر من حالة الارتخاء والجمود واللامبالاة غير الخلاقة التي يُبديها صنّاع السياسة في فلسطين في السلطة والمعارضة على حدّ سواء، فهؤلاء يجب دفعهم لشحذ أدمغتهم إنْ وجدت وأسلحتهم إنْ بقيت للتصدّي لهذا الواقع البائس، وإلا فإنهم سيكونون عبئاً على فلسطين وأهلها كما الاحتلال ودولته. فهذا الحال الجامد وإنْ بدا أمراً قائماً، فإنّ الواقع ليؤكد أيضاً أنّ الحركة سنة الحياة ولا يمكن لهذا الحال أن يستمرّ فإما أن نغيّره وإنْ لم نفعل فسيأتي من يملأ الفراغ ويقوم بالعمل.
*سياسيّ فلسطينيّ مقيم في الضفة الغربيّة.