الأخـت فـي شـرقنا… سـفينة النجـاة!
ياد كاج*
أمسك بالصورة القديمة بالأبيض والأسود وغرق في تفاصيلها متأملاً: «هو وهي يجلسان على الحشيش الأخضر في منطقة عائشة بكار وخلفهما شتول الزهور. هو الأخ الأصغر، وهي الأخت الكبرى، وكلاهما يرتديان ثياب العيد في ذلك الزمن. هو يضحك ضحكة طفل بريء، أما هي فلا تفعل (لذلك أطلق عليها الأب لقب «أم عبسة» لجديّتها ورصانتها عندما ركبت قطار العمر والسنين)».
ضحك في سرّه، وشرد في السماء وشكل الغيوم، وهو يرتشف كوب الشاي على الشرفة. «كم تغشّ الصورة؟»، سأل. وجبتهما في ذلك اليوم المشمس من العيد أيام الطفولة والحرمان كانت «كعكة قليطة» ـ كما تسمّى باللغة البيروتية. المضحك في الصورة أن أخته أمسكت بالقطعة الكبيرة منها وأعطته قطعة صغيرة جداً. لكن السنوات اللاحقة برهنت العكس: الأخت أعطت الكثير واكتفت بالقليل. كعكة الحياة أثمن بكثير من كعكة العيد في صورة أعادته خمسين عاماً وأكثر إلى الوراء.
الأخت في شرقنا ـ عكس ما هو سائد في الغرب ـ حضورها طاغٍ بقوة الحنان والحبّ والغيرة في الوسط العائلي الضيق والواسع. هي تنسج خيط العائلات وعلاقاتها عندنا بصنارة وبقطب متينة ومتأنية يحكى عنها من جيل إلى آخر. لا تحضر الأخت في شرقنا بصوت عبر الهاتف يأتي من بعيد، أو بزيارة سنوية في الأعياد، أو بواسطة رسائل الكترونية خالية من المشاعر والدفء بل هي حاضرة جسداً وروحاً في كل الأوقات.
كانت أخته، ولا تزال، ظلّ الشجرة التي حمته في طفولته ورعونة مراهقته وحتى بعد تأسيسه لبيته الثاني. يقال عندنا: «نيال البيت يلي بيطلع منو بيت». هي حملت همّ المنزل الأول، وثلاثة أرباع هموم المنزل الثاني. جوزة لا تنكسر، لها عالمها الخاص، نادراً ما تشتكي لغير «مَن يشكى له بلا مذلّة»… كانت في حياته، ولا تزال، كالأطفائية، كدولاب نجاة يُرمى لغريق في اللحظات الأخيرة. هو يشعل الحرائق وهي تخمدها. وفي الوسط العائلي الأوسع، كانت اليد التي تمدّ لكلّ طالبٍ للمساعدة.
لم ينسَ ذلك اليوم الذي حضرت فيه إلى مدرسته الإبتدائية، جالبة معها «الزوّادة» لأن إدارة المدرسة المتخلّفة قررت زربه، (قبل الحرب الأهلية، كان دوام المدارس قبل الظهر وبعده). لاحقاً، أنقذه اغتيال النائب الصيداوي معروف سعد من عتمة وظلامية تلك المدرسة فإن «مصائب قوم عند قوم فوائد».
كانت أخته سيدة صالون، في بيتهم الصغير أخذ الصبي يتعرّف إلى صديقاتها، يقرأ وجوههن، ويتعلم من حضورهن الراقي والمحبّب. من الصديقة الآشورية، إلى الجنوبية، إلى المعروفية (من بني معروف من جبل السويداء في سورية)، وصولاً إلى البيروتية ذات الخلفية البرجوازية غير المنقطعة عن الطبقات الوسطى وما دون. بفضلها، اكتشف حنكة أهل الجنوب وطيبتهم، وتعلّم حكمة وصدق بني معروف، واكتشف قسوة ورقّة الآشوريين، وبساطة ورفاهة البيروتيين. العلاقة الأقرب والأصدق كانت بين الأخت وصديقتها المعروفية. كانت لاعبة تنس محترفة (تدرّب الرئيس السابق لمجلس النواب، كامل الأسعد في النادي الفرنسي في منطقة قريطم). صديقة وفية ـ رغم طول الفراق ـ عادت إلى بيروت مؤخراً من أستراليا وزارتها في بيتها، فلملمتا معاً ما علق في ذاكرتهما من فتات وشتول الماضي.
الأم تعمل خارج البيت، فتلعب الأخت دورها وتدير الصالون كحكم مباراة كرة قدم في فمه صفارة: تستقبل جارهم الختيار المنتمي لجماعة «شهود يهوا»، وجارتهم الأرمنية القلقة على شبابها وبنتها الجميلة من زعران الحي، والجارة العراقية المسيحية – صاحبة الثقافة الموسوعيّة، وأبو علي وزوجته وعائلته الكبيرة النازحين من الجنوب بعد الاحتلال «الإسرائيلي»، وصولاً إلى الجيران الفلسطينيين الهاربين من منطقة صبرا بسبب القصف العشوائي.
كانت الأخت بالنسبة له قارب نجاة، فكلّما كادت أن تغرق سفينته الدونيكيشوتيّة، قفز في المياه وصعد إلى قاربها. ترك المدرسة الرسمية، فدفعت له قسط المدرسة الخاصة. كل ذلك والبلد غارق في أتون الحرب والصراعات المسلّحة. في الجامعة، بقيت تراقبه وتظلله وتخاف عليه من خطواته المتعسّرة وعناده الذي كان يدفعه بقوة الى محاربة «طواحين البشر». بعد رسوبها في الامتحانات الرسمية، كانت قد توقفت عن متابعة دراستها وقررت دخول سوق العمل لمساعدة العائلة. هو أقنعها، بالتقدم بطلب حرّ، درسا معاً، نجحا، ودخلا الجامعة اللبنانية معاً.
مرض الأب، فكانت «فلورانس نايتنغيل» العائلة. فعلت المستحيل بمساعدة أخوتها كي تنتشله من براثن الرحيل السريع. هجرت مقاعد الدراسة، دخلت عالم الكبار، وقرعت أبواب ضمائر كبار العائلة. لكن القدر قال كلمته الأخيرة، فركب الأب ـ عاشق البحر ـ قاربه الأخير في رحلة أتت باكراً نسبياً إلى أعماق التراب.
عندما وقع في حفرة مرض مفاجئ، أصيبت بالصدمة، كأن المرض أصابها في الصميم. كأن تراهن على لاعب كرة قدم في مباراة هامة، وفجأة، يسقط ولا يحقّق نجاحاً. يصاب الجمهور بالخيبة يكثر الشمّاتون. لكنها لم تنكسر، بل وقفت قربه كالصخرة بصبر يعاند الصبر دعمته، وردت له عزّة نفسه، وساعدته في بناء ذاته من حطام ذاته. سنوات وهي تمضي معه الوقت والجهد لإعادة بناء قصر كبريائه وأناه. مع مرور السنوات، عاد بفضلها، ووقف على قدميه من جديد. أمسكت بيده وقالت: «هذه بوابة الشام… فادخلها آمناً». معها زار دمشق لأول مرة ووطأت قدماه سوق الحميدية، وباب توما، والأسواق والحارات. صار له جناحان وعقل جديد.
في الحميدية، اكتشف عمقه من جديد، وسمع أجمل عبارة من رجلين كفيفين كانا يمشيان خلفهما مباشرة: «تضرب شنّك عاطفي»، قالها أحدهما للآخر.
كانت «الأم الثانية» في تربية أولاده، خصوصاً في محبتها للصبي البكر. بالنسبة للصبي كانت الحامي الأول وشاطئ الأمان، والساحرة التي لا يفرغ صندوقها من الهدايا. كل يوم هدية، كل يوم مئات القبلات، كل يوم تعويض عما افتقدته هي في حياتها. رأت فيه الأمل وشمس الغد، ولم ترفض له طلب. حتى أنها دفعت مبلغاً كبيراً كي تأخذه في رحلة في غواصة في بحر الزيتونة باي (شاطئ السان جورج). الرحلة المكلّفة تحولت إلى كارثة، لأن الصبيّ المدلل استمرّ يصرخ ويبكي طالباً الحصول على تنكة بيبسي بسعر خيالي! لم يتوقف عن الصراخ إلا عندما صرخ به أحد الركّاب. حتى هذا اليوم، لا يزال الأخ يذكرها بتلك الحادثة المضحكة.
أنقذت قارب زواجه وركّابه مرات ومرات. استمعت منه مراراً من الشكوى إلى أن شكرت الله على أنها لم تدخل تلك المؤسسة. كم من مرة أصابه الحرد وترك بيته لينام في أحد الفنادق. تتصل به صباحاً، فتلتقيه في مقهاه المفضل، تكذب عليه ليعود إلى بيته وأولاده: «كرمال الأولاد»، كانت عبارتها المفضلة. مع الأيام تحوّلت إلى صمام أمان عائلته، حيث يلجأ الأولاد لحلّ مشاكلهم العالقة. وعندما حاول الخروج وترك بيته للمرة الأخيرة، قاطعته بكل صرامة. لم تعُد تتحدّث معه، صارت كتمثال فرعوني صامت، سقط تحت ثقل الإحساس بالذنب ورفع العشرة. عاد إلى بيته رافعاً الراية البيضاء. «العشرة لا تهون إلا على ابن الحرام».
بدأ زمن الانكسارات عندها مع قانون الإيجارات الجديد ومرض الأم. لم تتخيّل يوماً لا هي ولا أمها، بأنّهما قد يُجبران يوماً ما على ترك منزلهم الصغير الذي خرج منه بيتان في رأس بيروت. سكّان البناية كانوا بالنسبة لها صمام أمان ووجوه سمحة محبة تذكرها بأيام المنطقة يوم كانت البركة والألفة والانفتاح هي السمات السائدة لأهل المنطقة. كلّما غادر أحد سكّان البناية بسبب ارتفاع الإيجار، كانت تشعر بأن جزءاً من كيانها قد سقط. تتحدّث عن رحيلهم كمن ودّع عزيزاً في سفر. تشعر بالتهديد وبأن دورهما سوف يأتي قريباً. تعتني بأمها المريضة كما لو كانت شتلة حبق، تنظف لها فراشها كل صباح، تُحضر لها فطورها، تعلّمها كيف تأخذ أدويتها في الوقت المناسب، تثبت التلفزيون على المحطة التي تحبها رغم أنها لم تعد تفهم جيداً ما يدور حولها. ثم تذهب إلى الوظيفة وتوصي الناطور والجيران بالانتباه لها.
المصيبة الأخرى والأخطر التي حلّت على أخته الكبرى أتت من مكان العمل، حيث عملت في تلك المؤسسة لأكثر من 30 عاماً وكانت خلالها مثال الموظّفة المحترفة والغيارة على مصلحة العمل والمدير العام الذي كان يصفها «بكومبيوتر المركز»، فذاكرتها فولاذية وعقلها منظّم ويعمل كأنه ماكينة. تكره الفوضى والنميمة. خلال الثلاثين عاماً التي أمضتها في المركز المتخصص في الدراسات والأبحاث الأكاديميّة، صنعت اسماً من ذهب، كانت تدافع عن حقوق الموظفين، تقول كلمتها ولا تخاف. هرم المدير، ذهب إلى بيته بعد طول صمود وعطاء، وحلّت مكانه مديرة جديدة «كشّ ملك».
تغيّرت قواعد اللعبة في المركز حيث وقع بأزمة مالية! المديرة الشابة اعتبرتها من «الحرس القديم». حاولت الدفاع عن نفسها… عبثاً… صوفتها حمراء! المديرة مصرّة على اقتلاعها بأية طريقة بحجة العجز المالي، لكن السبب الحقيقي كان أنها تعرف أسرار المركز من الألف إلى الياء، خصومة النساء صعبة ولا حلّ لها.
بين قانون الإيجارات المجحف ومطرقة المديرة الجديدة، تكاد جوزة أخته الحبيبة أن تنكسر.
تأمّل صورتهما أكثر وقطع «الكعكة» في يد كلّ منهما، الحديقة اليوم لم تعد موجودة في عائشة بكّار، بل حفرة كبيرة كمشروع مرأب للسيارات، مع وعود بإعادة افتتاح حديقة عصرية بديلة. الحديقة القديمة، والتي تقع على مقربة من محطة تلفزيون لبنان، كانت عزيزة على قلبه، لأن أرضها شهدت بناء أول غرفة حجرية بناه جدّه، وحيث ولد هو على يد الداية.
في اليابان عيد الأخت الكبرى يصادف في 6 كانون الأول، وفي الولايات المتحدة هو في أول يوم أحد من شهر آب. متى يا ترى عيدها في شرقنا؟ كل يوم هو عيد للأخت عندنا. مع كل إشراقة شمس ومغيبها، يكون عيدها وهي في عطاء ومحبة وحنان من دون كلل أو تذمّر.
إلى كل الأخوات… «كل يوم وأنتن بخير».
*راوٍ لبناني.