إدلب تكشف هشاشة أردوغان..
} سماهر الخطيب
زجّت تركيا بنفسها بين شاطئي المتوسط في محاولة منها لتفعيل دور إقليمي ذي وجهة مصلحيّة، ففي الجانب السوري ومنذ اندلاع الأزمة في سورية عام 2011 ولم تكتف الدولة التركية وممثلوها من دعم المعارضة السورية، فحسب بل جنّدت مقاتلين ودعمت إرهابيين كنسخة جديدة معدلة من الجيش الانكشاري التابع للإمبراطورية العثمانية والمؤتمر بأوامرها والموالي لها كل الولاء.
وهذه النسخة المعدلة استخدمتها في ليبيا كما في سورية تحقيقاً لغايات تبرّر لها الوسيلة في التعاطي مع القوانين الدولية عبر انتهاك شرعتها ومشروعيّتها في المجتمع الدولي.
ولأن للرئيس التركي رجب طيب أردوغان باعاً طويلاً من المراوغات والمراوحات بين الحبال الغربية تارة والروسية تارة أخرى، باتت محاولاته مكشوفة لدى حلفائه وأعدائه فقد وضع نفسه أمام خيارات محدودة بعد مقتل 33 عسكرياً تركياً أول أمس، الخميس، في محافظة إدلب في شمال غرب سورية، ما سيجعل من الصعوبة عليه قلب ميزان القوى الذي تميل كفته للدولة السورية لكونها تخضع بعملياتها هناك لمبدأ السيادة قبل كل شيء.
وليس مستبعداً أن يكون الرتل العسكري الذي تمّ استهدافه قد خرج من نقاط المراقبة التركية في تلك المنطقة بأمر تركي في محاولة منه لزجّ «الناتو» في «مستنقع» إدلب مستغلاً المادة الرابعة من معاهدة الحلف، والتي بموجبها، يمكن لأيّ بلد عضو في الحلف طلب إجراء مشاورات إذا كان يعتقد أن سلامة أراضيه أو استقلاله السياسي أو أمنه معرّض للخطر.
إنما لم تجرِ الرياح «الناتوية» وفق ما تشتهيه سفينة أردوغان المصلحية، سواء أكان الجنود الأتراك قد خرجوا من نقاطهم بأمر تركي أو خطأ عسكريّ أو محاولة لدعم الإرهابيين في إدلب، مهما كانت الأسباب فإن محاولة أردوغان استغلال هذه الضربة الموجعة التي تعرّض لها في إدلب لم تؤت بنتائج على مستوى تطلعاته. فقد اكتفى وزراء الحلف باجتماعهم أمس، بإعلان تضامنهم اللفظي مع تركيا دون إجراءات فعلية تفعّل هذه المادة.
في هذه الأثناء، قرّرت أنقرة رسمياً اعتبار القوات السورية «أهدافاً معادية»، وفق ما أعلنه أردوغان في اجتماعه الطارئ مع مجلس أمن بلاده، بالتزامن مع ما سبق تتعالى في واشنطن أصوات مطالبة بـ»مساعدة أنقرة على وقف النظام السوري وروسيا»، وتراهن أنقرة على هذه الأصوات في مسعى لتلقيها الدعم من الولايات المتحدة، مُخاطِرة بمواجهة عسكرية مباشرة قد تندلع مع روسيا.
إلا أن التصريحات الأميركية كما «الناتوية»، بالرغم من كونها ترى تركيا حليفاً ضدّ روسيا، حيث ترجم هذه التصريحات القائد العام لقوات الناتو في أوروبا، جنرال القوات الجوية الأميركية تود والترز، الذي يرأس أيضاً القيادة الأوروبية للقوات المسلحة الأميركية، بقوله «دور هذا البلد (أي تركيا) في مواجهة روسيا حالياً مركزيّ»، مشدداً على أنّ «المصالح الطويلة الأجل لكل من الولايات المتحدة وتركيا تكمن في استمرار العمل المشترك لتطوير التعاون ضدّ روسيا، على أساس ثنائي ومن خلال الناتو».
ووفقاً للجنرال الأميركي، فإن «دور تركيا في مواجهة روسيا مهم من حيث المبدأ». فـ»البلدان يعدّان منطقة البحر الأسود مجال نفوذهما الطبيعي، وهما مستمران في الصراع في ليبيا ويخوضان معارك مباشرة في إدلب».
ومع ذلك، فإنها تصريحات لا تمتّ إلى الأفعال بصلة الواثق التركي، فعلى سبيل المثال بقي طلب أنقرة من واشنطن تزويدها بأنظمة الدفاع الجوي «باتريوت»، من دون أي إجابة واضحة حتى اليوم بالرغم من أنها قد وعدت به منذ زمن بعيد. وربما عدم يقين الأميركيين من قدرة دفاعاتهم الجوية على مقاومة الطيران الروسي بشكل فعّال هو سبب تريثهم، لأن أميركا تعلم مسبقاً أنّ تدمير طائرة روسية لأول بطارية باتريوت أميركية، بصرف النظر عمن يديرها، سيؤدي بالتأكيد إلى إضعاف محاولاتها فرض أنظمتها للدفاع الجوي على جميع حلفائها دون استثناء، وبالتالي ضرب أحد أهم صناعاتها العسكرية، وتراجع في مبيعاتها باعتبارها وارداً مهماً للخزينة الأميركية لكونها عالية الكلفة.
وإذا خطّط أردوغان استخدامها اليوم لتغطية حدود بلاده بحجة تصاعد النزاع في إدلب، أو نقلها لأحفاد الانكشاريّين، حينها سيكون الوضع أكثر خطورة، بحيث يصبح من الممكن أن يقع العسكريون الأميركيون تحت ضربة القوات الجوية الروسية. وهذا السيناريو لن يتجرأ أردوغان على حياكته اليوم، خاصّة أنه يواجه خيارات شديدة الصعوبة تتضمن جميعها مخاطر هائلة، فهو من جهة لا يستطيع إلا الرد على الهجمات المباشرة للجيش السوري، لكنه من جهة أخرى يعلم جيداً بأنه يتوجب عليه تفادي المضي بعيداً في التصعيد.
وإلى الآن، لم يتمكن الغرب من تدمير التحالف الروسي – التركي الذي نشأ في سورية على مدى سنوات، فعلى الرغم من الاختلاف في وجهات النظر بينهما والتنافر ومحاولات أردوغان التملص من بعض التفاهمات أو التعهدات، إلا أنّ موسكو استطاعت دائماً إيجاد حلول وسطى، والوصول مع أنقرة إلى نقاط تفاهم ليس فقط في سورية إنما في القضايا الإقليمية الأخرى، بما في ذلك الوضع في ليبيا.
إن التصعيد الحالي، بصرف النظر عن حجمه إنما يبقى في خانة التكتيك التفاوضي العالي المخاطر يتبعه الرئيس التركي لاستحصال تفاهم جديد حول إدلب، وربما حول ليبيا على مبدأ «ضرب عصفورين بحجر واحد» أو استحصال ورقة رابحة في إحدى الأوراق التي يظنّ أنه ممسك بها.
بالتالي سيجد الرئيس التركي نفسه مرة جديدة أمام خيار شد الوثاق مع روسيا والبحث عن تفاهم جديد قد يلبي بعضاً من «طموحاته» والتي باتت مكشوفة لدى الغرب الأوروبي، الذي يحاول أردوغان استفزازه بورقة اللاجئين، مجدِّداً في الذهن الأوروبي أزمة الهجرة الخطيرة التي مرّت به عام 2015، لكونه يعلم مسبقاً أنه أمام خسارة كبرى إذا دخل في مواجهة طويلة الأمد مع الجيش السوري وحليفه الروسي.
لعدم إمكانية الاعتماد على دعم غربي حاسم، من جهة، وعدم امتلاكه الوسائل العسكرية ولا الموارد البشرية الكافية لمواصلة التصعيد الجاري في إدلب، من جهة أخرى، آخذاً بعين الاعتبار الرأي العام التركي الذي قد ينقلب ضدّه إذا ارتفع عدد قتلى العسكريين الأتراك في سورية.
ما سيضعه أمام خيار القبول بترتيبات جديدة تفرضها روسيا، التي استطاعت حتى اليوم إدارة الأزمة السورية، معتمدة على تفعيل القانون الدولي من جهة، وإدارة الأطراف بحنكة من جهة أخرى.