الأديب الأمين الياس عشّي لـ «البناء»: الربيع العربي قناعٌ لتزييف خطط الاستلاب وحرف الوجدان القومي عن فلسطين تنقص المثقفين الثقة البناءة وكتبت للأطفال لرهان الزعيم سعاده عليهم وبراءتهم
حوار الشاعرة دارين حوماني
دبج في اسم كتابه ببراعة لعبة الرقص على حبال عدّة والتقنّع بأقنعة عدّة، ولكن بروح الكاوبوي القاتل البربري الذي ما زال يقبع بوحشية ساديّة في حالة أوليّة في الفكر والسياسة والاجتماع.
إصداره مطلع هذا بعنوان «الرقص في عيد البربارة على الطريقة الأميركية»، كتاب يحكي الأزمة السورية بصوت مثقف من عالمنا العربي منذ العام 2011 وحتى العام 2019، الأديب الأمين في الحزب السوري القومي الاجتماعي الياس عشي الذي اختار الكتابة منذ حوالي خمسين عاماً، وأهدى المكتبة الأدبية والسياسية الكثير من الإنتاجات الأدبية والصحافية بين الأدب والسياسة والشعر والأطفال، توّج نتاجه الحافل بكتاب صادر مؤخراً عن المركز الفني للطباعة والإعلان يحكي قصة الربيع العربي الذي تمدد نحو سورية «كذبة اخترعوها كي لا تبقى المسألة الفلسطينية في الواجهة»، كتاب لا يمكن إلا أن تخرج حزيناً من بعده كيف يمكن حرف وجدان الحكومات وإلهاء الشعوب..
هنا حوار حافل مع الأديب عشي حول كتابه الأخير وسورية والعجز العربيّ.
{ «الرقص في عيد البربارة على الطريقة الأميركية»، ما هي دلالات العنوان؟
لم أختر العنوان إلا بعد أن صار الكتاب قيد الطبع، وإنما اخترته للدلالة على «التهريج» الذي تمارسه أميركا في علاقاتها مع أصدقائها وأعدائها على السواء، ويكفي أن نعود إلى الحوارات التي أجراها الرئيس الأميركي «ترامپ» مع بعض ملوك وأمراء النفط، لتكتشفي بنفسك المشهد الكاريكاتوري الذي طبع هذه اللقاءات! أضيفي إلى ذلك التذبذب في المواقف! ما تقوله أميركا اليوم هو غير ما ستقوله غداً.
عندما ينطفئ الغضب تنطفئ شعلة الثورة
{ عنونت مدخل الكتاب «هل فقدنا الإحساس الجميل بالغضب؟» موجّهاً هذا السؤال إلى الشعوب في العالم العربي، ألم يتورّط جزء كبير منهم في سورية؟
الغضب هو العلامة الفارقة في صناعة النصر، وعندما ينطفئ الغضب تنطفئ شعلة الثورة. راقبي معي مشهد الشوارع العربية اليوم، اختفى غضب الخمسينيات والستينيات منها، ما من شارع، في تلك السنوات، إلا وتعرّف إلى العلم الفلسطيني. اليوم خلت الشوارع من العلم الفلسطيني، ومن الكوفية المرقطة، ومن القبضات المرفوعة في وجه يهود الخارج والداخل، وحلّت مكانها أعلام مزوّرة، وقبضات رخوة مرفوعة في وجه بعضنا البعض، فصار الصراع بين المسلم والمسيحي، وبين السنّي والشيعي، فربحت أميركا، وربحت «إسرائيل»، وبات علينا أن نلملم كذبة الربيع العربي المزيف الذي اختبأ المهرج الأميركي وحلفاؤه وراءه، ودمّروا نصف العالم العربي، وهم على قاب قوسين أو أدنى لتدمير النصف الآخر إذا تمّت «صفقة القرن»! من هنا جاء سؤالي: متى نغضب؟ وسؤال آخر: ألا تستحقّ سورية أن يعلن الشارع العربي، من أجلها، عصياناً مدنياً ضدّ الحكّام العرب الذين، منذ اليوم الأول، تورطوا في المؤامرة لمحو سوريّة عن جغرافية وطنهم الممتد من المحيط إلى الخليج؟
اميركا كامرأة السوء والبغاء.. تباهي بالعفّة وترتكب المعاصي
{ تشبّه أميركا بامرأة خليعة تنكرت بزيّ امرأة محتشمة لتدخل العالم العربي، هل تحتاج أميركا لذلك؟ فهي أصبحت تحكي بكل وضوح عن تمكنها من الوصول إلى حقوق النفط السوريّة والعراقيّة، وعن تبرّع السعودية لها بمئات الملايين من الدولارات مقابل وصايتها على العالم العربي.
لم أشبّه أميركا بامرأة متنكرة لتدخل إلى العالم العربي، فأنا واثق أن أميركا موجودة تحت جلد تسعين في المئة من العرب، ولكنني شبهتها بامرأة السوء والبغاء، تباهي بالعفّة وترتكب المعاصي. أليست هي من دخل الأرض السورية بحجة مكافحة الإرهاب، وفي الحقيقة تسلح الإرهابيين، وتدربهم، وتقف وراء كل الأعمال التخريبية التي يقومون بها بالمشاركة مع العثمانيين الجدد. أما الكلام على إعلانها بأنها وصلت إلى منابع النفط هنا وهناك وهنالك، وأن السعودية وغيرها يدفعون لها مقابل حمايتها لهم، فقد كتبت على صفحتي منذ أيام: «أسّس الرئيس الأميركي ترامپ مدرسة سياسيّة بعنوان واحد: كيف تكون وقحاً؟ وحتّى الآن تخرّج منها بامتياز: الطالب النجيب أردوغان. لا يكفي، يا صديقتي، أن تضع أميركا قناعاً لتقنع الآخرين بطهارتها، فمنذ إبادتها سكان أميركا الأصليين المسمّين خطأً بالهنود الحمر، وهي تغيّر أقنعتها لغاية في نفس يعقوب، كما يقال.
المثقف من يقرأ الواقع «من مداخل مختلفة»
{ المثقف العربي يحتاج إلى قراءة الواقع من مداخل مختلفة، هل تراهن، من خلال هذا الكتاب، على بناء ذاكرة للمنطقة العربية ولسورية تحديداً؟ وعلى أن يُصغي العربي الآخر إليك؟
في الأساس لا يجوز أن نضع إنساناً ما على لائحة المثقفين، إذا لم يقرأ الواقع «من مداخل مختلفة». الاتجاه الواحد، وعدم قبول الآخر، والخضوع للمتوارث، يلغي إيجابية المثقف، وتحوّل ذاكرته الديناميكية إلى ذاكرة محنّطة لا تجيد سوى التكرار. نعم أراهن على بناء ذاكرة لسورية، كما أفهمها جغرافياً والمسماة بسورية الطبيعية، ولكن ليس من خلال كتابي هذا وحده، بل من العودة إلى الثقافة بمعناها التغييري، ومن الإيمان بما قاله سعاده «المجتمع معرفة، والمعرفة قوّة». أما أن يصغي العربي الآخر إليّ، فهذا ما أتمناه، وعسى أن يكفّ الحكّام عن مراقبة الكتب، ومصادرة كلّ كتاب يعارض أهواءهم!
لاستقرار يقوّض السيطرة الديكتاتورية
{ يقول نعوم تشومسكي: «الاستقرار يعني الانصياع لهيمنة الولايات المتحدة الأميركية، الاستقرار ليس أن تكون الأمور هادئة، إنما أن تكون تحت السيطرة»، ماذا تقول في ذلك؟
«نعوم تشومسكي» هو الكاتب اليهودي الوحيد الذي أقرأ له، ولديه مواقف على درجة عالية من الواقعية ضد الصهيونية، وضد الولايات المتحدة الأميركية. في قول تشومسكي هذا تحريض مباشر ضد الهيمنة الأميركية، ووضع قاعدة جديدة للاشتباك بين الدولة والمواطن، ملخصها: رفض الاستقرار السياسي والمدني والاقتصادي للدولة الديكتاتورية، بشرط أن تبقى الأمور تحت السيطرة. بتعبير آخر: رفض تسليم الشارع للغوغائيين، وأصحاب المصالح الخاصة. وهذا ما لم نرَه في أي بلد عربي على الإطلاق.
الكتابة رئة أتنفس منها هواءً نظيفاً
{ منذ عام 1972 اخترت أن تكون كتاباً، ودخلت منطقة الشعر، كيف جئت إلى القصيدة؟
في عام 1972 صدر لي أول مؤلف، أما الكتابة فقد مارستها منذ فتوّتي؛ كنت في السادسة عشرة من عمري عندما كتبت ثلاث مسرحيات مثّلت جميعها وهي: الطاغية پيير، إذا تبع الماضي، وعقلية أب. وفي عام 1956 نشرت لي صحيفة «الدنيا» الدمشقية قصة قصيرة تحت عنوان: الرجال كلّهم ذئاب. وفي بداية الستينيات والسبعينيات نشرت أبحاثاً في مجلة «المعارف» وفي «ملحق النهار الثقافي» وفي أكثر الصحف والمجلات اللبنانية. وما زلت أكتب، لأن الكتابة، بالنسبة لي، الرئة التي أتنفس منها هواءً نظيفاً. أمّاً الشعر، فما جاء منه عفوياً فحافظت عليه، وأصدرته في كتاب لم تتجاوز صفحاته المئة والثلاثين.
{ ما الذي جعلك تتشابك مع عالم الطفل فكان لك مجموعة من كتب الأطفال؟
ما جعلني أكتب للأطفال براءتهم، وإيماني الراسخ بأنهم الأجيال التي راهن عليها أنطون سعاده عندما قال: «إني أخاطب أجيالاً لم تولد بعد»، وربح هذا الرهان.
{ ماذا ينقص المثقفين العرب؟
ينقصهم الثقة المتبادلة في ما بينهم، احترامهم للآخر مهما اختلفوا في الرؤية، الخروج من بلاط الملوك والأمراء والرؤساء، وتنقصهم خاصة حماية الدولة لهم وتأمين حياة تليق بهم. من هنا كنت أتمنى أن يكون السؤال الأخير أن يأتي بهذه الصيغة: ماذا يجب على الدولة أن تقدّمه للمثقفين؟