آخر الكلام صفير النّسور ترنيمة صلاة…
حنان سلامة
اِغضب…
أُرفض زمان العهر والمجد المدنّس تحت أقدام الطّغاة المعتدين.
اِغضب…
ثُر في وجه العدوّ، حطّم قيده، أَرق دمه، إنّه مستعمرٌ لعين.
إذا وصلنا إلى نقطة المجد، فهذا بفضل تضحية من نحن مدينون لهم ببقائنا أحراراً، بفضل سعيهم لتحقيق ما يراه الغير مستحيلاً ونراه واقعاً، لأنّنا نمتلك نفوساً أبيّة تأبى الخضوع، تخرجنا من ظلمة القبور، لنحيا بعزٍّ في العلا، فتتطهّر أجسادنا من دنس العبوديّة، وترتقي نفوسنا إلى مصاف الآلهة.
عندما حامت نذر الحرب، لم نستسلم للواقع المزري… لم نقف مكتوفي الأيدي بانتظار القرارات الدُّوليّة المهينة؛ فحلّقت في السّماء نسورٌ زيّنت فضاءنا بحلّةٍ لن يراها من فقد الشّرف والعزّة، لأنّه دوماً محنيّ الرّأس لا ينظر إلى العلاء. ارتقت النّسور إلى السّماء، وناضلت في مسيرة الحياة بين صمودٍ وخلود. إنّهم شهداؤنا… نقاؤهم ياسمين الشّام، شموخهم الأرز، عراقتهم مدينة بابل، ثباتهم اسم فلسطين، أصالتهم كفكرنا الّذي لم تبدّله الظّروف.
استبيح لبنان. نجح العدوّ الباطش بتدمير المناطق المأهولة، وتفكيك أواصر الوطن، لكنّه لم يفلح في استعباد النّفوس، فالحرّ حرٌّ حتّى في الزّنازين. العزّ بداخلنا لن يدمّره سلاحٌ، لن يحطّمه احتلال، وسنبقى على الوعد بألّا يفلت من العقاب كلّ من انتهك كرامة أرضنا وشعبنا، فنحن نؤمن بأنّ الموت في سبيل استرجاع الأرض إنّما هو بداية الحياة.
تفاقمت الظّروف المأساوية بفعل المخلّفات النّاجمة عن الحرب، والّتي طالت شريحةً كبيرةً من الوطن، وتزايدت العوائق النّاجمة عن الوجود المسلّح، وبات اليأس سمة العصر، حيث اعتبر الشّعب أنّه غير قادرٍ على المواجهة. من هنا، كان لا بدّ من إيجاد حلٍّ لإزالة حاجز الخوف من “الإسرائيليّ”، وذلك بأن نثبت أنّنا قادرون على الإطاحة برأسه، عبر تنفيذ عمليّات هجوميّة تطال معظم المرافق بدلًا من اعتماد الخطّة الدّفاعيّة، وكان لهذه الخطّة الدّور الأكثر أهمّيّة في تغيير نمط الحرب، حيث بدأ دور الأبطال الاستشهاديّين الّذين حوّلوا فكرة البقاء “الإسرائيلي” في لبنان إلى كابوس يرجو العدوّ الاستيقاظ منه.
عندما ننجح في إيجاد التّوازن بين الحياة والموت، ونصل الى نتيجة حتميّة “أنّ الحياة وقفة عزٍّ فقط”، وأنّ الموت في سبيل الحرّيّة أشرف وأرقى من الحياة المذلّة، يصبح الصّراع ظاهرة اعتياديّة مستمرة بالتّعاون مع الأطراف المتعدّدة الّتي تسعى سعينا. فالحقّ لا يستردّ في مجلس أمنٍ مخادع، بل بالعزيمة الثّائرة الّتي تسحق الأساطيل.
نسور ارتقت وأخرى تنتظر، وما كان أمامنا خيارٌ سوى الثّورة ضدّ كلّ محتلّ، حاملين راية النّصر، مؤمنين بها، فإرادة القوميّين الّتي تمتلك شجاعة “مواجهة التّحدّيات” أبدت قوّةً هائلةً في مسارٍ متراكم من التّضحيات الّتي لن تذهب سدًى، وستبقى مستمرّةً على نطاق أوسع، فمهما احتدم الصّراع سيبقى توطيد الارتباط بالأرض قائماً، وسنخوض غمار المعركة، ولن تعيق دربنا مفاوضاتٌ مستفزّة، بل سننتشر لتحقيق النصر في بقاع الأمّة انتشار النّار في الهشيم، فواجبنا لا يقتصر على تحرير لبنان فقط، بل يمتدّ ليشمل كلّ حبّة تراب من الهلال الخصيب.
لذا، فنحن سنكون على قدر المسؤوليّة عندما ينادينا الواجب لأنّ “الدّماء الّتي تجري في عروقنا عينها هي وديعة الأمّة فينا متى طلبتها وجدتها”؛ كما وأنّنا نؤمن أنّ الشّهداء كاللّهب في وجه العدوّ، يرحلون بأجسادهم، وتبقى أمجادهم تستعمر أفئدتنا كأرواحٍ لا تفنى، وأصواتهم تأسر الصّمت وتزلزل صدى الخنوع. يرحلون ويحلّ مكانهم مجدٌ ينير عقولنا، ويذكّرنا بقسمنا أنّنا سنبقى دوماً فداء قضيّتنا، فقد ينهكون أجسادنا لكنّهم لن يثنونا عن متابعة دربنا لتحقيق وحدة أمّتنا.
هو جسدٌ قد احتضن رصاصةَ الألم
فكان نسر أمّةٍ من أرقى الأمم
نسرٌ هو والنّسور لا تعانقُ سوى
سحاب النّصرِ في القمم…