إدلب للغول التركيّ الجائع: سورية للسوريّين
طارق خوري*
بدءاً من العام 2011، حاولت تركيا الترويج لنموذج حكم، عرف عنه فرادته لكونه يجمع بين «الأسلمة» و»الديمقراطية العلمانية»، كشكل من أشكال «الوصاية» على بلدان الشرق الأوسط بعد ما سُمّي بـ «ثورات الربيع العربي»، وهي نيات تجلّت لدى دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان المصريين في أعقاب أحداث «يناير» من ذلك العام إلى الاقتداء بالنموذج التركي.
مما لا شكّ فيه، أنّ ذلك «الربيع» العربي حمل شكلاً من أشكال التوافق الزماني مع استيقاظ الأحلام السلطانيّة في مخيّلة أردوغان الذي حاول الاستفادة من الفراغ الاستراتيجي في المنطقة وحالة الاضطراب الفكري والسياسي لشعوبها من خلال اللعب على الوتر الطائفي والعصبية الدينية. فالأخير، ومنذ دخوله الحياة السياسية في تركيا، عمل على تشكيل استراتيجية جديدة لبلاده تقوم على إعادة تعريف دور الدولة في الإقليم والعالم، ودأب على ترويج ما أسماه قيم «الديمقراطية المحافظة» (الإسلامية غالباً) في الداخل، وتصديرها إلى الخارج كأحد تجليات «القوة الناعمة» التركية الرامية إلى استعادة «أمجاد الإمبراطورية العثمانية»، جنباً إلى جنب مع «القوة الصلبة» لأنقرة التي باتت تتمتع اليوم بحيز هام من الحركة داخل عدد من دول المنطقة من سورية إلى ليبيا. من هنا، كان تحالف «التنظيمات الإخوانية» على أنواعها معه، كشكل من أشكال «البيعة السياسية» لمن اعتبر نفسه «حفيد السلطنة العثمانية»، في طور المستجدات التي أعقبت «ثورات» العقد المنصرم، وذلك بـ»ثوب إسلامي» فضفاض و»أطماع سلطانية» لامتناهية. يشهد على ذلك ما سجلته الانتخابات الرئاسية الأخيرة في تركيا من ترداد أردوغان لمفردات من قبيل «العثمانيين الجدد»، و»أحفاد العثمانيين» وتعابير مشابهة دأب الأخير على استعمالها في أكثر من مناسبة، لا سيما إبان هجومه على الأكراد في سورية، حين قال: «نحن أحفاد العثمانيين، وسنوجِّه للإرهابيين ومَن يقف وراءهم صفعة قوية».
لكن في حقيقة الأمر، فإنّ النموذج الذي بدا فاتناً في أعين الكثيرين استبطن عداء شديداً للديمقراطية وأطماعاً توسُّعية بطابع إسلامي مزيف تجعل من المصالح والمكاسب الجيوسياسية دين السياسة وديدنها الوحيدين لأنقرة.
أظهرت الانتخابات الأخيرة لبلدية اسطنبول استحسان أردوغان للديمقراطية بشرط لا يقلّ عن شروط بقائه وبقاء حزبه في السلطة، فيما تمثل سياسات التتريك في بعض مناطق الشمال السوري، والتي ينظر إليها على أنها تستنسخ «النموذج الصهيوني» في الضفة الغربية، جزءاً لا يتجزّأ من فصول انكشاف رئيس لا يتورّع عن استغلال شعارات الحرية والمشاعر الدينية لتحقيق أجندة خاصة بحكومته، ولو على حساب خداعه أو استلابه لحقوق الشعوب الأخرى، ولو كان شعباً «شقيقاً» وفق أدبيّات حزب «العدالة والتنمية».
واقع الأمر، أنّ الرئيس، الذي يمكن احتسابه وبجدارة ضمن نادي الرؤساء الديماغوجيين والشعبويين على مستوى العالم، يجد صعوبة في التفريق بين حدود المستحيل والمستطاع على مسرح السياسات الإقليميّة، ذلك أنّ الرجل يبدو شديد التأثر بأبطال الدراما التركية، كمسلسل «عودة أرطغرل» ذي المضامين العنصرية، والذي حظي برعاية شخصية من جانب الرئيس الكاريزماتي، بوصفه أحد أبرز منتجات صناعة البروباغندا التركية، والتي تروّج أنّ السلطنة المزعومة لأحفاد سليمان شاه ليست محدودة إلا بحدّ سيفهم المدافع عما يعتبرونه دولة الإسلام ضدّ دولة الكفر.
هذا النموذج، الذي راق لبعض التيارات السياسية في بعض دول «الربيع العربي»، وتوزّعت مسمّياته ومندرجاته بين عناوين عدّة تراوحت بين ما يسمّيه أردوغان مجتمع «قيم الديمقراطية المحافظة»، وبين مفهوم «العمق الاستراتيجي» الذي يعود لرئيس الحكومة التركية السابق، وشريك التصورات الجيوبوليتيكية لأردوغان أحمد داود أوغلو الذي يعتبر بلدان «الشرق الأوسط» بمثابة ثاني مناطق الالتقاء المهمة بالنسبة لأنقرة، تلقى صفعات عدّة. فبعد سلسلة «نجاحات» في عدد من الدول العربية، كمصر وتونس وليبيا بادئ الأمر، انقلبت الصورة من جديد في غير صالح «الإخوان المسلمين»، لا سيما في مصر وسورية. فالتجربة السورية كانت بمثابة الاختبار لأبرز أوجه عطب السياسات التركية في المنطقة بعد العام 2011، حيث بدأت أمنيات تركيا تتهاوى تحت زخم الواقع السوري، إذ سقط مطلبها الأساسي المتمثل بحظر جوي وإنشاء «منطقة آمنة» داخل الأراضي السورية، إضافة إلى فشل رهاناتها المتوالية على إسقاط حكومة دمشق من خلال الفصائل العسكرية والجماعات الإرهابية المتطرّفة المدعومة منها، وصولاً إلى سيطرة ميليشيات قسد، المصنفة إرهابية من قبل تركيا، على جزء من الجغرافيا السورية، وليس انتهاء باستعادة الحكومة لحلب، وهي منطقة لطالما كانت محل طمع من النخب السياسية التركية المتعاقبة، وهي مطامع بلغت أوجها مع وصول أردوغان الى سدة الحكم.
ظنّ «السلطان» الجديد أنّ الولايات المتحدة بتخليها عن حلفائها الكرد، وأن روسيا، من خلال غضّ البصر عن عملياته العسكرية ضدّ قوات سورية الديمقراطية، إنما توليانه حيزاً هاماً في إدارة الملف السوري، وأنهما يعتبرانه اللاعب الذي لا غنى عنه لحلّ الأزمة في سورية. ارتفع مستوى الغرور في رأس الغول التركي الجائع، حينما أعطاه الروس صلاحية إقامة بعض نقاط المراقبة في إطار الاتفاق على تنفيذ سلسلة تفاهمات امتدّت من سوتشي إلى أستانة، ما دفعه إلى التوغُّل والتغوُّل أكثر في أطماعه على الأرض السورية. أما وقد بدأ الجيش السوري عمليته العسكرية في إدلب، فإنّ أردوغان بات يخشى تداعيات الأمر على مكاسبه الراهنة في المدينة الزاخرة بالمجموعات المسلحة المدعومة تركيا، وأن تكون خلفياته إيذاناً ببزوغ فجر حقيقة سلم بها الجميع، إلا أردوغان، وهي حقيقة سوف تدفع الأخير إلى الإقرار، ولو متأخراً، بأنّ سورية للسوريين فقط، ولا مكان على أرضها لأي غازٍ أو محتلّ. ويمكن القول إنّ رسالة دمشق الموجعة لأنقرة قبل أيام على أرض إدلب، لا تترك مجالاً للشك بأنّ القوة الصلبة التي يتلطى خلفها أردوغان لن تنفعه بعد اليوم، طالما أنّ القرار السوري واضح وحازم لاستعادة إدلب إلى حضن الدولة مهما كلف الأمر.