أليس «الطعم» هويّة وثقافة؟
} طلال مرتضى*
اليوم لم أذهب إلى العمل، ثمّة خدر ثقيل لبس جسدي كلّه، تسلّل تحت لحافي بهيئة سيل من دفء، لم يرد لي أن أتهجأ تفاصيل الضوء الذي باتت تتشكّل ملامحه الأولى وراء نافذتي.
استسلمت من دون عناد لغفوة ناعسة، لا يمكن لي وصفها لخلابة الهدوء الذي يجتاح مفاتنها، قلت في قرار حلمي:
ـ إنها تستحق هذا الإذعان اللذيذ.
في الحقيقة كنت بحاجة ملحّة لهذا الصفاء، الصفاء الذي لم ألتقِ به منذ ألف سنة، حسب توقيت دفتر شوقي.
عدتُ بي نحو تلك الألف سنة الغابرة للإمساك بتلابيب هذا الهدوء عله لا يهرب قبل أن تمتلئ به حواسي، لم أدرِ بصراحة بأن كل الطرق الذي أودي إليها بروحي تنتهي عند باب طاحون اللهفة الذي يعجن ويجرش دقيق روحي مذ صارت البلاد العتيقة مجرد تصاوير وأخبار تمرّ بسرعة على شريط الوجع العاجل.
ـ يا الله.. أسألك العتق.. إن كان هذا سحراً فحرّرني منه وإن كان عشقاً فإني اكتويت حد الذوبان بحريق فراقها وإن كان لعنة فارفعها عني بتعويذة أنت الأجدر على اجتراعها.
قطع ابتهالي ورجائي صوت «زمور» السيارة التي توقفت أمام المنزل..
إلى تلك اللحظة لم تغبني جملة الرجل الذي خاطب بها ابنتي:
ـ «خليه يلبس بسرعة.. وينزل.. تأخّرنا».
تنبّهت من غفوتي مع انسكاب كلمة «تأخرنا» في أذني، قمتُ على عجل..
ـ بالفعل تأخرت عن العمل.
حين ملأت عيوني من تفاصيل المكان، السرير، الوسائد، الخزانة الخشبية والستائر حتى المرآة لم تكن تعرفني، وجدت كل تلك الأشياء التي كانت تتمادى بحضورها وقت ارتكابي لتلك الغفوة لا تشبه الأشياء المحزنة في «ميموري» ذاكرتي..
استدركت الحكاية بسرعة كي لا ينفتح، على غير نية، بوجهي دفتر حساب الشوق اللعين، أنا أدرك بسليقة الصباحات الهادئة بأن هناك ديوناً لم أستطع دفعها، بقيت رهناً على ذمّة لهفتي..
هربت بي بعد أن أولمت لي «كأس المتة» المعتاد، لكن كلمة «تأخرنا» بقيت في رأسي مشنوقة _ مثل سرب الحمامات التي مرت تواً صورتها بعيوني _ على سلك البرق عند مفرق بلدة «براق» شمال مدينة السويداء.
على سيرة «براق» هذه..
ـ اه.. الله يرحمك يا ماجد. قلت.
«تأخرنا» كانت كلمة المرحوم الدكتور ماجد أبو ماضي والذي كان يعمل أستاذاً جامعياً في كلية الآداب بدمشق، كان لدى ماجد حصة إضافية في كلية التربية في مدينة السويداء حينذاك.
ـ «بعدك نايم يا زلمي.. إيه».
ـ قول الله يا حكيم.
تفاصيل الأرض التي كانت السيارة تتركها ـ على هيئة شريط غبار ـ وراءها، عادت صورها تتوالد في رأسي كما سليقتها الأولى.
ـ «مالك؟.. أيش بتفكر.. أنت أكلت بحياتك فلافل»؟
ضحكت، «فلافل.. هو في مخلوق على هذه الأرض لم يأكل فلافل يا دكتور».
ـ «لك إيه.. بعرف.. بعرف.. هو كل الفلافل.. فلافل.. بعد شوي تعرف الفلافل».
بين حجيرة والسيدة زينب تنبّه الدكتور إلى أن لمتنا لم تكتمل بعد، لهذا وعلى عجل بدء بتحريك مؤشر المذياع لتنهال منه المناددة:
ـ «مين اللي فتح الردّة؟».
ـ «أنا.. اللي فتحت الردة».
ـ «وليش الردّة عا وردة»؟
ـ «بالصدفة قلنا وردة».
كانت ساعة دمشق وقتها» قد عانقت السابعة تماماً وقبل أن تتمم سيدة الصباح قولها:
ـ وصلت وردة.
انحاز ماجد إلى يمين الطريق ليتوقف عند امرأة متوسطة العمر ترزم ثوبها إلى مئزرها العريض وهي تلوّح بكلتا يديها برغيف من العجين والذي قاربت حجم دائرته في اللحظة بما يعادل مقود سيارة ماجد وبما أكبر بقليل قبل أن تمسده على خدود الصاج المحمرة خجلاً من وهج الحطب المشتعل تحته.
ـ خليك دقيقتين وأجي. قال.
مرّت عشر عجاف على تلك التصاوير لم أستطع إلى محوها سبيلاً، بالفعل أصاب ماجد، ليست كل الفلافل.. الفلافل.. وليست كل من خبزت هي خبازة.
خبز صاج وفلافل فقط هيك كسرنا السفرة أنا وماجد..
ـ شو.. يعني؟
هذا سؤال مباح للجميع، كل السوريين بل كل العرب يفطرون فلافل وخبز وما الجديد يا صديقي في حكايتك؟
ـ الجديد.. الجديد يكمن فقط في (الطعم).
منذ أن قامت حرب البلاد ولا شيء سوى تلك الكلمة، بشكل يومي تقتلني بكل ثانية ألف مرة «الطعم»، كل المطاعم التي عدتها في مدن الضوء الأوروبية إلى تلك اللحظة لم تستطع محو ذلك «الطعم» من على لساني، لهذا يحقّ لي الآن أن أسأل أيضاً: البلاد كيف وقفت كل تلك السنين في مواجهة كل شذاذ الأرض مَن يستطيع كسرها؟ البلاد التي تستفيق عند كل قيامة شمس لتجد ولداً من أولادها أولم لها روحه لتكسر سفرتها من يستطيع قهرها؟ البلاد التي انفرطنا من بين أصابعها كحبّات سبحة في أصقاع الأرض كلها ولم نزل نحتفظ بطعم فلافلها وخبز صاجها، من يستطيع تغيير نكهة ملقاها في أرواحنا. البلاد؟ البلاد؟
البلاد التي لو بقيت أعدد مناقب حسناتها بي، البلاد التي لو بقيت أعدد الخناجر التي مددناها في خاصرتها، البلاد التي… لم نزل نقتلها بأيدينا كل صباحك.. ونستلذ بحنوها وهي تتمتم: أنتم أولادي.. نبضي.. وقيامتي.
على سيرة البلاد.. وبما أسئلة البلاد لم تعد تحتاج لجوازات سفر، هل من مسافر غادر تواً دمشق نحو السويداء، هل رأى بعد خروج سيارته من الشارع الأخير للسيدة زينب، امرأة بثوب طويل تشنقه على مئزرها.. تركن على الرصيف عينه مع صاج متقد أحمر الخدود ومقلاة زيت؟ ربما لم تعد تلك الصورة متاحة في عيون المغادرين أو العائدين إلى دمشق، لكنني أشكّ تماماً بأن المكان عينه لم يزل يحتفظ برائحة ألوكها الآن بفمي، خبز صاج وفلافل.
*كاتب عربي/ فيينا.