صبيّ دافنشي يستسلم مجدداً لعصفور عنب «عطر الطين»!
} محمد رستم*
حين ينسكب الحبر على البياض ويتصَاعد بخور الروح نكون قد دخلنا عالم الكتابة التي لا تعدو كونها مغامرة يستجمع فيها المبدع ملكته الفكريّة مع خوابي ذاكرته ثم يعطّرها بعبير ذوقه وامتدادات رؤاه ولعلّ كتابة الرواية كجنس كتابيّ من أمتع أشكال هذه المغامرة.
من العنونة نبدأ حيث وسم الكاتب روايته بـ»عطر الطين» مقدّماً العطر كخبر متضايف بعد أن أودع المبتدأ طي الكتمان والحديث عن رائحة التراب حين يرشّ بالماء مما يشي بحنين إلى البيوت الطينيّة حيث بساطة الحياة، هذا كفكرة تنسجم مع تكوين الإنسان الأول، فالطين سورة الانبثاق الأولي وأصل التكوين.
تشكّل المرويّة صرخة تنديد (بالتهريب) عالية الرتم وذلك بفضح آثاره المدمّرة على الفرد والمجتمع والبيئة، وذلك من خلال التلميذ الكسول فراس الذي يعشق معلمته ويتوق لأن يصبح مهرباً، رغبة في تمرّد لحمل مرايا الروح المعذبة بالحرمان وصولاً إلى أناشيد الرغبة وليضمن الخروج من طمي الفقر والألم والانتقال إلى الصنف العالي، الطبقة المترفة، لذا فهو لا يعير بالاً لتوجيهات ونصائح جدته التي تمثل القيم الاجتماعيّة السليمة والأصالة الطاهرة، معتبراً ابن عمّه المهرّب (كمال) قدوته، فكمال الضائع على أرصفة الحياة والذي انفصل والداه وتركاه كحجر نرد على طاولة المصير الغامض يعيش وحيداً. كما أنّ والد فراس ظل بعيداً عن أسرته بحجّة العمل في لبنان ليحقّق فراس حلمه، إذ يغدو مهرباً كبيراً لكنّ حلمه الأكبر بامتلاك الشابة هالة لم يتحقق. إذ هربت مع ابن عمه كمال فتتعدد زيجاته لمحو الحلم لكن لا فائدة، أخيراً يتزوّج «رنا» التي يجد فيها شبهاً بهالة لكنّها تبقى الوجه الآخر للسجادة وحين تعود هالة إلى البلدة تطلب منه أن يوصلها إلى حمص وفي الطريق تلاحقه سيارات الشرطة فيُسرع لأنّه يحمل شحنة مخدرات فتنقلب السيارة ويصاب وهالة بإصابات تقربهما من الموت ويدخل السجن لفترة محددة وتتكشف خيوط المرويّة حين يلتقي كمال وهالة ورنا والأم التي ربّت رنا ويطلق كمال النار على هالة لاتهامه إياها بالخيانة ومحاولة إغراقه في البحر فتموت هالة ويموت معها ابن فراس بسبب الإصابة ويعتبر فراس نفسه مسؤولاًعما حدث، فيعترف بأنّه كان وراء موت والد رنا لأنّه رفض طلبه بالزواج منها كما أنّه حاول إغراق كمال للفوز بهالة ويصل فراس إلى طريق مسدود فينتحر مسموماً.
تنضوي المرويّة تحت عباءة الواقعيّة الانتقاديّة وتتمطى على سرير السيرة الذاتيّة بفاعليّة «فراس» الشخصيّة الرئيسيّة والتي اتّخذت هيئة السارد العليم…
ولعلّ الكاتب قد يكون الوحيد الذي يؤثث لطبيعة بيئة الجغرافيّة الحدوديّة ليجعل منها بطلاً موازياً فاعلاً في عالم روائي.
كما أبدع حنا مينة حين جعل من البيئة الساحليّة عالماً روائيّاً. والروائي إبراهيم الكوني الذي أنبت من رمال الصحراء وقحطها عالماً يضج بالحياة. الكاتب منحاز لتراب قريته البكر مسكون بتفاصيل جغرافيتها المتمادية في السحر وهو حين يوظّف الجغرافية في بناء متونه الروائيّة يطمح لأن يضع البقعة المتاخمة للحدود في دائرة الضوء لذا فقد حضر المكان كمنظور خلفي وكمحيط لعالمه الروائي (وصف دقيق للبيئة الريفيّة الطبيعة، البيوت، الأهالي، العادات، القيم) مركزاً على التطور الذي شهدته المنطقة.
وتؤكّد الرواية على زمكانيّة الإنسان في حضور جسديّ محسوس في المكان ووعي في الروح متأثر بالمكان والزمان.
وكي يقنعنا الكاتب بواقعيّة روايته يعمد إلى ذكر الكثير من الأماكن كشاهد عيان (حمص، دمشق، جسر قمار، العريضة، جبال عكار، قلعة الحصن…الخ).
ولعلّ إصرار فراس على طموحه في أن يصبح مهرباً مأخوذ من واقع البيئة حيث يجني المهرّب مالاً يحسد عليه في تلك البقعة.
وقد أجاد الكاتب رسم بعض جوانب هذه الشخصيّة التي تعتلي صهوة المغامرة والمخاطر وتبحر على شراع المجهول وهي تدرك أنّها ستغدو في خبر كان عند أوّل منعطف للحقيقة فحياته مفتوحة على كلّ الاحتمالات ودربه مفخخة بكل أنواع المفاجآت.
وإذا كانت الرواية تشير إلى نظرة شاذة من تلميذ إلى معلمته وعشقه لها مخالفة بذلك العلاقة الحقيقيّة بين المعلمة كأم والتلميذ كابن ولا مجال للعشق بمفهومه الجنسي هنا؛ فتعلّق الطفل فراس بمعلمته (وإن قارب سن البلوغ) على هذا النحو هو حالة شاذة، كما أنّ وصفه لتفاصيل جسدها (كان بياض رجليها الممتلئتين.. أما خصرها المنحوت بعناية وللصدر حكاية أبطالها إلهان وقفا في عرش الجمال فطردا قليلاً خارج جسد الجنّة) فمثل هذا الوصف لا يندّ عن طفل صغير، فالطفل يعشق ببراءة وبنظرة كليّة أي (بالجملة) أما الراشد فيزيّن (بالمفرّق).
هذا وقد ترك الراوي بعض خيوط روايته متفلتة وفيها من القطب المخفيّة ما فيها عن سابق قصد لتكون عامل مفاجأة للقارئ حين ربطها بسياق الأحداث ولعل شيئاً من الوهن بدا في البناء الدرامي ولم يتمكّن الكاتب من إدخال الهدف الذهبي بحرفيّة فتبدّى ذلك في حيرة الكاتب في كيفية الوصول إلى القفلة المنطقيّة والمناسبة مما دفعه لجعل كمال يقتل هالة والطفل كما دفع فراس للانتحار بالسم حزناً على هالة وابنه وندماً وتكفيراً لفعلته وكي يعطي الكاتب مزيداً من (الأكشن) جعل فراس قبل ذلك يرغب بالانتحار وهالة إلى جانبه في السيارة. وهذا ما يحيل فراس إلى شخصيّة مرضيّة مستهترة بالحياة.
والهدف الإشاري واضح في المرويّة من خلال إدانة التهريب وتبيان أثره السلبي على الفرد والمجتمع والبيئة إذ انتهى كمال إلى السجن وفراس إلى الانتحار بعد حياة خالية من الاستقرار (زواج وطلاق ثلاث مرات) كما أن حفر الآبار من قبل المهرّبين الميسورين جفف الينابيع فماتت الأشجار ودخلت المنطقة في حالة من التصحّر (يذكرنا برواية الأشجار واغتيال مرزوق) لعبد الرحمن منيف (حيث قطعت الأشجار وزرع القطن بدلاً عنها. فتصحّرت البلاد).
هذا وقد أسقط الكاتب على رنا الكثير من أفكاره وأمنياته، التي لا تناسب شخصيّتها مثلاً رغبتها النهوض بالحالة الثقافيّة لمجتمع غارق في قضاياه. (فأمر خيالي أن يكون الدخول إلى الحديقة ترديد مقولة لأحد الكتّاب أو قول مأثور أو بيتين من الشعر) ثم أنّ مشروعها هذا جاء حركة اعتراضيّة في مجرى الفكر السائد، وهو إسقاط حرفي للمشروع ذاته الذي تحمله شواغل الأديب والذي تحكمه شهوة الإصلاح والنهوض بالإنسان في بيئة ينخر فيها وباء التهريب ويرى الكاتب فيه جرحاً في جسد المجتمع تنز أخاديده المترعة قيحاً وصديداً. وتأخذ الرواية مصيرها الدرامي من خلال تعلق فراس بمعلمته هالة وممارسة التهريب لتحقيق حلمه. فراس المستسلم لعشق يدق في جرن القلب ويعزف على أوتار المشاعر سيمفونيّة الوله، فقد ظلت هالة لديه أملاً معلقاً على مشجب الانتظار وأضحى مصلوباً على خشبة العشق وكأنّها الجسر الوحيد المتبقي في أزمنة التعب، فركعت روحه عند بوابة فتنة ضوئها وتحت لحاء الوقت ظلّ عشقه لها طائر فينيق لم يقوَ رماد الزمن على دفنه..
للغة الكاتب السرديّة حضور ثري بكل ألوان البهاء وكثيراً ما تقترب من الشعرية الساحرة إذ تعتمد الصور الاستعارية ولعلّه اعتمدها جزرة غواية في جذب القارئ هذا وقد أسقط لغته الشعرية على لسان فراس المهرّب مما بدا مجافياً للواقع.
أخيراً نقول إنّ الرواية تشكّل معادلاً موضوعيّاً لواقع مجتمع في بقعة جغرافيّة متورطة سلفاً بلعب دور مخاتل تتيح فرصاً للانفلات والخروج على قيم المجتمع أجاد قلم الأديب فؤاد العلي في تصويره.
*كاتب سوري/ حمص.