البدء بتخفيف لهب كرة النار…
} أحمد بهجة*
سيأتي يوم تتخلّص فيه البشرية من هذا الفيروس الخطير «كورونا» الذي لا يزال يتمدّد وينتشر في أربع جهات الأرض، وإذ نرجو من الله ألا يكون هذا اليوم بعيداً، فإننا واثقون برحمته وعدله.
على أنّ أولوية وضرورة مواجهة هذا الفيروس لا تعفينا في لبنان من مسؤولية التصدّي لأولويات وضرورات أخرى خاصة على صعيد أوضاعنا المالية والاقتصادية والاجتماعية والمعيشية الضاغطة، والتي تكاد تلتفّ بخناقها على أعناق المواطنين.
لقد أعلن رئيس الحكومة مساء السبت الفائت، قرار عدم دفع سندات «اليوروبوندز»، وأكد أنّ الأولوية هي لتلبية حاجات اللبنانيين من المواد الأساسية التي لا غنى عن استيرادها، لا سيما القمح والأدوية والمحروقات.
هو قرار جريء بلا شك، ويقلب معادلة السياسة الاقتصادية رأساً على عقب، فبعد ثلاثة عقود من النوم على حرير سياسة الريع (الفوائد المرتفعة والمضاربات العقارية)، وبعد ما خلّفته تلك السياسات الخاطئة والقاصرة من أزمات ومشاكل ينوء اقتصادنا ومجتمعنا تحت أعبائها، كان لا بدّ أن يتغيّر شيء ما، وها هو الرجل الفدائي الدكتور حسان دياب يتقدّم مع حكومته ليغيّر ويحمل كرة النار، آملاً في مرحلة أولى أن ينجح في التخفيف من لهيبها، على أن تأتي الخطط المتوسطة والبعيدة المدى، وتحديداً تلك المتعلقة باقتصاد الإنتاج، بالحلول المناسبة للأزمات والمشاكل المتراكمة.
وقد تميّز خطاب رئيس الحكومة بالصراحة والدقة، فهو أولاً حدّد المبالغ التي تستحق قريباً (4.6 مليارات دولار) وأعلن عن تأجيل الدفع للاستحقاق الأقرب 1.2 مليار دولار، وهذا التأجيل يبقي الدولة قادرة على تمويل المستوردات الضرورية من الأغذية والدواء والمحروقات…
كما أنه حدّد بشكل علمي المشكلات المالية الثلاث التي يواجهها لبنان: الدين العام والعملة الوطنية والقطاع المصرفي.
كذلك لم يغفل ضرورة وضع خطة وطنية لمكافحة الفساد وتنظيف المؤسسات، ولعلّ الخطوة الأولى على هذا الصعيد تبدأ بإيجاد حلّ جذري لتحكّم حيتان المال بالقرار في المؤسسات المسؤولة عن صرف المال العام، وتحديداً في المؤسسات والمجالس والصناديق التي تشوب أعمالها وموظّفيها ألف شائبة.
على أنّ المعالجة لا بدّ أن تشمل أيضاً أولوية ضاغطة على الجميع وهي ضرورة إيجاد الحلول السريعة لما يعانيه المواطنون على أبواب المصارف، بينما لا مبرّر على الإطلاق لما يحصل، ذلك أنّ حجم الودائع في القطاع المصرفي يبلغ أكثر من 180 مليار دولار. وهنا يصحّ تطبيق قاعدة 20/80 المعروفة في عالم الاقتصاد والتسويق، حيث يملك نحو 20% من المودعين أكثر من 80% من الودائع، بينما يملك 80% في المئة من المودعين أقلّ من 20% من الودائع.
وبأرقام مبسطة… فإنّ 20% من المودعين يملكون أكثر من 150 مليار دولار من إجمالي حجم الودائع، فيما لا يملك 80% من المودعين أكثر من ثلاثين مليار دولار، ولم يكن جائزاً على الإطلاق للقطاع المصرفي أن يوصِل نفسه إلى هذا المستوى من تراجع الثقة به، وكان قادراً أن يوفّر على نفسه كلّ هذه «الشرشحة» لو أنه لبّى طلبات صغار المودعين، ولم تكن هذه الطلبات في الأيام الأولى التي تلت 17 تشرين الأول تتجاوز العشرة ملايين دولار يومياً، أيّ لو أنّ القطاع المصرفي أبقى في فروعه حوالى مليار دولار لتلبية ما يريده المودعون لما كانت اهتزّت الثقة به، ولما كنا نشهد ما يحصل اليوم على أبوابه وفي فروعه، إلا أنّ المصارف فضّلت بدلاً من ذلك أن تشترك مع عدد من كبار المودعين (ومنهم سياسيّون بارزون) في جريمة تهريب المليارات إلى الخارج، مما برّر الخوف لدى صغار المودعين من أن تكون ودائعهم هي كبش محرقة الأزمة الاقتصادية الحالية.
من هنا أتى قرار المدّعي العام المالي القاضي علي إبراهيم الذي أمر بوضع إشارة «منع تصرّف» على أصول 21 مصرفاً لبنانياً، لأنّ أصحابها ورؤساءها ومدراءها خالفوا القانون بحجز أموال غالبية الناس من جهة وتآمروا وتشاركوا من جهة أخرى مع عدد محدود من العملاء في تهريب مليارات الدولارات إلى الخارج في عمل غير قانوني أولاً، ومخالف لأبسط المفاهيم الوطنية والأخلاقية ثانياً.
ورغم أنّ تدخلات سياسية معروفة أدّت إلى تجميد هذا القرار إلا أنها لم تؤدّ إلى إلغائه، ومن شأن بقائه سيفاً مسلطاً على رقاب المرتكبين، أن يؤدّي إلى تغيير في سلوك المصارف تجاه الناس والتعامل بطريقة مختلفة مع المودعين. خاصة أنّ كلام الرئيس دياب يشكل افتتاحاً لمرحلة جديدة نأمل أن نرى بشائرها عما قريب.
*خبير اقتصادي ومالي