لماذا بروتوكول موسكو المضاف حول إدلب؟ وماذا بعده؟
العميد د. أمين محمد حطيط*
يسأل سائل لماذا مدّت روسيا اليد إلى أردوغان الغريق في إدلب وأريافها ومنحته فرصة جديدة للاستمرار عضواً في ثلاثية استانة الراعية لعملية البحث عن حلً في سورية، وهل كان بروتوكول موسكو المضاف إلى تفاهم سوتشي ضرورياً بعد طول خداع ونكول تركيّ وبعد الهزيمة التي تجرّعها أردوغان في منطقة إدلب وبلغت ذروتها في سراقب حيث ذاق مرارة هزيمة نكراء أنزلت به بحجم أذهبَ أحلامه وأوهامه (أو هكذا يجب أن يكون) وهل كان ضرورياً ان تقوم روسيا بكلّ ذلك رغم علمها لا بل يقينها بأنّ أردوغان ليس من الأشخاص الصادقين الذين يؤمن لهم او يستحقون الثقة بهم بعد أن جرّبته خلال السنوات الثلاث الماضية، وتأكدت من فشله في كلّ الاختبارات التي خضع لها؟
رداً على ذلك، وإذا نظرنا الى المسألة من منظور عملاني ظرفي، فإنّ أجوبة الأسئلة تلك تكون سلبية ومضمونها القول إنّ البروتوكول لم يكن ضرورياً او ليس مقبولاً في ظرفه، فأردوغان بعد معركة سراقب الثانية ظهر كليماً لا بل مثخناً بجراح الهزيمة ورأى أحلامه تتلاشى وتدفن مع جثث الـ 270 جندياً وضابطاً من جيشه التركي الذين اعترف بمقتلهم في الميدان في مواجهة منظومة الدفاع عن سورية، ويتأكد من أنّ أوهامه اختفت مع شروق شمس الحقيقة في سراقب بعد تحريرها الثاني الذي لم يستغرق أكثر من 10 ساعات فقط نفذ فيها الجيش العربي السوري ومعه وحدات من حزب الله اللبناني والحرس الثوري الإيراني معركة من أهمّ معارك القتال الليلي في الأماكن الآهلة، معركة أذهلت «إسرائيل» وأصابتها بدوار عسكريّ واستراتيجيّ عنيف نتج عن تفكيرها بما ينتظرها في الجليل عندما تدقّ ساعة تحريره.
نقول إنّ الإجابة ستكون سلبية ولم يكن البروتوكول ضرورياً، لأنّ أردوغان سيستفيد منه لحفظ ماء وجهه ولن ينفذ ما تعهّد به فيه، لأنّ التنفيذ سيجعله في مواجهة مباشرة مع كلّ ما اعتقد به أو ما خطط له، او ما دخل الى سورية من أجله، فكيف يحترم وحدة الأراضي السورية وهو الساعي للسيطرة عليها كلياً او جزئياً او أقله كما صرّح وأطلق المصطلح الغريب العجيب القائل بـ «حدود القلب العثماني» التي تتجاوز الحدود السياسية لتركيا القائمة حالياً وهو يريدها أن تصل لتشمل الموصل في العراق وحلب وحماة وحمص وإدلب في سورية. وكيف ينفّذ تعهّده بقتال إرهابيّي جبهة النصرة وهو الذي يعتبرها جيشه البديل الذي يعوّل عليه لتحقيق أحلامه؟
فأردوغان يحتاج من بروتوكول موسكو بنداً واحداً هو وقف إطلاق النار من أجل وقف العمليات العسكرية التي ينفذها الجيش العربي السوري وحلفاؤه والتي أدت الى تحقيق الأمن لحلب ومحيطها وفتح الطريق السريع لها، M5 ويعتبر هذا التدبير أي وقف إطلاق النار غنيمة له في ظرف الهزيمة المنكرة التي أنزلت به، ومن اجلها ذهب الى موسكو ودفع ثمناً باهظاً من كرامته وهيبته التي ضاعت في خنادق إدلب وسراقب وفي ممرات الكرملين في موسكو بين يدي قيصرها.
هذا في التحليل البسيط والنظر المباشر، ولكن إذا دققنا في الوضع استراتيجياً فنصل الى نتيجة أخرى، حيث إنّ لروسيا ولسورية مصلحة في هذا البروتوكول رغم تضمّنه بند وقف إطلاق النار الذي أوقف عملية التحرير راهناً، حيث إنّ هذا البروتوكول ومع علم الجميع أنه لن ينفذ منه إلا بند وقف إطلاق النار وبشكل مؤقت، فيه من الإيجابيات ما لا يمكن إهماله، فهذا البروتوكول:
1 ـ يثبت ويضمن استقرار الأمن في المناطق المحرّرة حديثاً ويمنح الوقت الكافي للجيش العربي السوري لبناء منظومة الدفاع الملائمة التي تحمي تلك المناطق، ويؤمّن فتح طريق الـM5 بشكل آمن وأكيد ويفتح طريقM4 بشكل مقبول برعاية روسية يكون التركي شريكاً في الحراسة فيها.
2 ـ يطوي ملف الخسائر التركية التي بلغت المئات بين قتيل وجريح، ويوقف المساعي التركية الرسمية للتحريض ضد سورية التي لا ترى في تركيا عدواً، وتميّز بين تركيا الدولة والشعب وهما جاران وصديقان وبين أردوغان الرئيس الذي يعمل بعقيدة وذهنية اخوانية ويمارس العدوان والإرهاب ضدّ سورية. وبالتالي سيكون وقف إطلاق النار الآن مدخلاً لتبريد الجرح التركي. وهذا ما تريده سورية التي تنظر الى العلاقة مع تركيا استراتيجياً وموضوعياً ولا تريد عداءها.
3 ـ يمنح الفرصة للجيش العربي السوري وحلفائه لإعاده التنظيم بعد معارك الشهرين المنصرمين، وتهيئة البيئة العملانية وتسوية خطوط التماس لتكون مناسبة للعمليات القتالية المستقبلية التي ستنطلق عندما تخلّ المجموعات الإرهابية بقواعد مناطق خفض التصعيد ووقف إطلاق النار، او تمتنع عن الانسحاب من محيط الـ M4 لمسافة 6 كلم شمالي وجنوبي الطريق.
4 ـ يقيم فضّ اشتباك ميداني بين تركيا وسورية التي لا ترغب أصلاً بمواجهة تركيا، ما يمكّن سورية من التفرّغ لمواجهة الإرهاب ويتيح لتركيا مواصلة إشغال مقعدها في منظومة استانة. وفكّ الاشتباك هذا كان هدفاً سعت اليه روسيا للحفاظ على منظومة استانة التي لا زالت ترى فيها الآلية السياسية الوحيدة المتوفرة للوصول الى حلّ للأزمة السورية وفقاً للمبادئ الأساسية التي تراعي وحدة سورية وسيادتها واستقلالها.
أما على صعيد العلاقة الروسية التركية البينية، فانّ من مصلحة روسيا وبعد أن صفعت أردوغان في الميدان لا بل أدّبته بالنار أن تظهر له بأنها لا زالت تشكل له ملاذاً يطمئن اليه بعد أن خذلته اوروبا واميركا والاطلسي وبعد عزلته عربياً، وأن تحتضنه في لحظة هزيمته وعزلته حتى تبقيه في منطقة وسطى بينها وبين الغرب الأطلسي من دون أن يكون متطرفاً لصالح ذاك الحلف الذي ينتمي اليه، تقوم بهذا مع يقينها بانه لن يكون حليفها ولن يتخلى او لن يُسمح له بالتخلي عن عضويته الأطلسية. ومع هذا يمكن أن تجعله روسيا بعلاقتها المدروسة معه أقلّ ضرراً وأهون خطراً عليها إذا أبقت معه على هذه العلاقة التي لا تستلزم من قبلها التفريط بالعناوين الأساسية لاستراتيجيتها وسياستها او لتحالفاتها وقد يكفيها بعض التسهيلات او السلوكيات السياسية او الاقتصادية التي لا تمسّ بنية المنظومة الروسية الاستراتيجية.
لكلّ ذلك نرى أن بروتوكول موسكو الإضافي كان ضرورياً وفي وقته الصحيح، ومع هذا نرى أيضاً انّ هذا البروتوكول لن يصمد طويلاً ولن يستعيد إدلب، اذ سيسقط بعد ان يؤدي دوره في فضّ الاشتباك السوري التركي، ويستعيد تركيا الى منظومة أستانة ويعطي وقتاً معقولاً للقوى العاملة في محيط إدلب للانطلاق الى وثبة التحرير المقبلة، التي ستكون حتمية لأنّ المجموعات الإرهابية التي تعرف انّ مصيرها محتوم وأنه لن يبقى لها وجود في أي شبر من الأرض السورية. هذه المجموعات لن تعمل بالبروتوكول ولن تنفذ شيئاً منه بما في ذلك وقف إطلاق النار، وعندما تصل خروقها الى الحد الذي يبرر استئناف العمليات سنرى القوات العربية السورية تستأنف التحرير الذي لن يكون إلا عسكرياً كما ثبت بالتجربة والبرهان خلال السنوات التسع الماضية.
*أستاذ جامعي وخبير استراتيجي.