} حيدر الهاشميّ
الضجة التي تحدثها الطيور على أشجار المنازل وأسلاك الهاتف، قبل حلول المساء هي أشبه بفكرة مجنونة لا تعرف بأي مكان تستقر وأنت كقطعة خشبية متسمّر أمام مرآة دكان حلاقة قديم، تحدّق بها طويلاً، تبحث عن ابتسامتك المفقودة، وتجمع أوراق ما تبقى من ذكرياتٍ وأغنياتٍ قديمة.
يقترب منك الليل ويلتهم الظلام ما تبقى من ملامح النهار بينما ترتفع أصوات الموسيقى، وتزيّن المصابيح الملونة الحدائق العامة البارات والأزقة الضيّقة. ثم يتلاشى ظلّ المارة وتختفي أصواتهم ويتحوّل المكان إلى رصيف قاحل، لا تزال تراوح مكانك، تبحث عن شجرة كبيرة لغرض التبوّل تشعل ناراً من الأوراق التي جمعتها من القمامة تقاوم البرد، لكن هذا الدفء لن يستمرّ، تُمسك عربتك وقبل أن تفكّر بالانصراف، تسمع صوتاً يناديك من الخلف إنه تاجر داهمه الليل هو الآخر.
التاجر: أيها الحمّال قف مكانك، هل بإمكانك إيصالي إلى نهاية الشارع؟
الحمّال: نعم، لكن هذه البضاعة ثقيلة الوزن، كيف سأستطيع حملها؟
التاجر يقهقـــه ثم يضربه على قفاه: هيّا، لا وقت لديّ أنت جرّب فقط، ستـــكون في المستقبل حمّالاً جيداً.
سار الحمّال والتاجر يراقبه، تصفع وجهه الرياح الباردة تتساقط دموعه كالمطر، يتوقف قليلاً يخرج من جيبه منديلاً يمسح عينيه، يصرخ به التاجر: لمَ توقفت أيها الأبله، ألم أقل لك لا وقت لديّ!
الحمّال: لا شيء، تذكّرت موت أبي.
التاجر: كلّنا سنموت، إما بالحمّى أو بالكوليرا، لا تحزن. هكذا هي الحياة.
الحمّال: لقد ذهب للحرب ولم يعد إلينا كاملاً، ومنذ ذلك الحين وأنا أصنع له رأساً من طين، أضعه بجوار قبره كلّما زرته، لعلّه يعود إلينا سالماً من جديد.
التاجر: أنتم الفقراء تتوارثون البؤس، خذ هذا ألف دينار وأنزل البضاعة هنا.
الحمّال: هذا المبلغ قليل جداً يا سيدي، الأجرة خمسة آلاف، إخوتي جياع وأمي مرهقة، وهذا الألف لا أستطيع أن أشتري به خبزاً.
التاجر: كم أنتم مزعجون. لا فرق بينكم وبين الحيوانات المفترسة، خذ ثلاثة آلاف وانصرف لا أريد أن أراك مجدداً.
ومنذ ذلك الحين وأنا أتذكّر هذا المكان جيداً، لقد مضى ثلاثون عاماً على تلك الحادثة، فعلاّ حين يموت الضمير، تكون حياة الغابة والحيوانات أرحم بكثير من تلك الإنسانية المزيّفة.
*روائيّ عراقيّ.