تسبب بناء سد النهضة في إثيوبيا بنشوب أزمة بين أديس أبابا والقاهرة منذ عام 2011، لكن الأزمة دخلت مرحلة جديدة بعد مقاطعة إثيوبيا الجولة الأخيرة من المفاوضات في واشنطن وإعلانها البدء في ملء سد النهضة اعتباراً من تموز المقبل، حيث انطلقت معركة تصريحات رسمية بين مصر وإثيوبيا. أما السودان الذي يكون أحد أطراف الازمة رفض الانضمام إلى بيان وزراء الخارجية العرب الأخير الذي أيد الموقف المصري في أزمة سد النهضة.
وفسّرت إثيوبيا غيابها عن اجتماع واشنطن الأخير بشأن سد النهضة والذي كان يفترض أن يتم خلاله التوقيع على اتفاق بشأن ملء هذا السد الضخم وتشغيله مع كل من مصر والسودان برعاية البنك الدولي والولايات المتحدة، وقالت في بيان رسمي إن «فريق التفاوض الإثيوبي لن يشارك في الاجتماع، لأنه لم يكمل بعدُ التشاور مع أصحاب المصلحة داخل البلاد».
كما وجّهت صحيفة إثيوبية، انتقادات كبيرة إلى ما وصفته بـ»الأفعال الدنيئة» التي ارتكبتها أميركا في مفاوضات «سد النهضة»، وحذرت العبث بسيادة إثيوبيا وشعبها.
ونشرت صحيفة «ذا ريبورتر» الإثيوبية مقالاً، قالت فيه إن «الحكومة الأميركية مارست «ضغوطاً كبيرة» على المسؤولين الإثيوبيين لإجبارهم على القبول باتفاق بشأن «سد النهضة».
وتابعت الصحيفة الإثيوبية بقولها «تلك الضغوط الأميركية، أغضبت بصورة كبيرة المسؤولين الإثيوبيين».
واستمرت «ذا ريبورتر» بقولها «كان هناك دعم أميركي تجاه مصر خلال المفاوضات، لكن تأثيره يمكن أن يكون ضعيفاً، إذا كف الإثيوبيون عن التناحر فيما بينهم وأظهروا الوحدة».
ونقلت الصحيفة عن مسؤولين لم تسمهم، قولهم إن «إثيوبيا أوضحت موقفها بوضوح، فهم لن يتساهلوا إزاء التشويش المستمر على سد النهضة، الذي بنوه بجهدهم وحر مالهم ودون دعم من أحد، ولن يتفاوضوا بشأنه».
وتابع بقوله «الإثيوبيون لم يساوموا قط بشأن سيادة بلدهم في أيّ مكان أو أيّ زمان، ورغم وجود قضايا خلافية في ما بينهم فإنهم لم ينفصلوا عن بعضهم بعضاً عندما يتعلق الأمر بالسيادة».
وعادت الصحيفة في افتتاحيتها قائلة «ينبغي أن يتم إبلاغ أميركا أن تتوقف عن الأفعال الدنيئة، وأن تظهر لها الحكومة أن لإثيوبيا كرامة ولا تحبّ التدخل من أحد».
وطالبت الصحيفة الحكومة الإثيوبية بـ»إشراك المجتمع الدولي، تفادياً لحرب حول المياه في أفريقيا، التي تتسبب فيها السياسة الخارجية الأميركية المعوجة»، وفق قولها.
واستدركت بقولها «سدّ النهضة مصلحة قومية أساسية للإثيوبيين، ومن ثم لا يمكن تقديمه كبش فداء، لإرضاء القوى الأخرى».
والعام الماضي دخلت وزارة الخزانة الأميركية على خط الأزمة بين إثيوبيا ومصر والسودان، بعدما طلب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من حليفه الأميركي دونالد ترامب للتدخل.
وبعد اجتماع واشنطن في 27 و 28 شباط الماضي أصدرت وزارة الخزانة الأميركية بياناً أعلنت فيه التوصل إلى اتفاق، داعية إثيوبيا إلى توقيعه «في أسرع وقت ممكن».
ونفت وزارة الخارجية الإثيوبية التي تغيّبت عن جولة المفاوضات الأخيرة، التوصل الى اتفاق، وأعربت في بيان عن «خيبة أملها» من بيان وزارة الخزانة الأميركية الذي عارض بدء ملء السد من دون إبرام اتفاق بين الدول الثلاث.
وقالت الخارجية الإثيوبية إن «مسودة الاتفاق الذي وقعته مصر بالأحرف الأولى في واشنطن، ليس محصلة المفاوضات ولا المناقشات الفنية والسياسية للدول الثلاث».
وأعلنت إثيوبيا في وقت لاحق وعلى لسان وزير خارجيتها غيدو أندرغاشيو، عدم مشاركتها في أي مفاوضات حول سد النهضة «من شأنها أن تضر بالمصالح الوطنية للبلاد»، مشيرة إلى أنها «ستبدأ ملء بحيرة السد على النيل الأزرق مع استكمال عمليات البناء»، ومشددة على أنه «لا توجد قوة على وجه الأرض يمكنها إيقاف هذا المشروع».
وبلغة قوية خرج أندرغاشيو، ليعلن أن «إثيوبيا تعتزم بدء التعبئة الأولية لخزان سد النهضة بعد 4 أشهر (تموز)»، مؤكداً «عدم وجود أي قوة تستطيع أن تثني إثيوبيا عن استكمال بناء السد»، وهو ما يعدّ تحدياً واضحاً للسلطات المصرية التي تقف عاجزة منذ سنوات.
ولم يكتفِ وزير الخارجية الإثيوبي بتأكيداته ملء الخزان، بل ذهب إلى أكثر من ذلك برفضه أي تحذيرات مصرية عن تدمير علاقاتها مع بلاده، مؤكداً أن «إثيوبياً لا تخشى أحداً»، منهياً بذلك الأمل في الوصول إلى اتفاق بعد جولات مفاوضات رعتها أميركا.
كما رفض أندرغاشيو بيان وزارة الخزانة الأميركية حول تعبئة السد، قائلاً: «لن نقبل أن تطلب منا أميركا أن نفعل شيئاً لا نريده، وممارسة الضغوط علينا لفائدة الآخرين».
وتساءل وزير الخارجية الإثيوبي عن دور الولايات المتحدة والبنك الدولي في عملية التفاوض، معتبراً أن دورهما لا بدّ أن ينحصر في «الرقابة» فقط.
وأعلنت الرئاسة المصرية مؤخراً أن «الرئيس الأميركي دونالد ترامب أكد لنظيره المصري عبد الفتاح السيسي، خلال اتصال هاتفي، أن واشنطن مستمرة في وساطتها في المفاوضات حول سد النهضة».
وينص اتفاق إعلان المبادئ المبرم في الخرطوم في آذار 2015 بين رؤساء مصر وإثيوبيا والسودان، على «ضرورة الاتفاق على قواعد ملء السد وتشغيله قبل البدء بالملء، بما يمنع أي أضرار على دول المصب».
وفي هذا السياق أكد وزراء الخارجية العرب في ختام دورتهم العادية يوم الأربعاء الماضي (4-3-2020) دعمهم لموقف مصر في مفاوضاتها مع أديس أبابا بشأن سد النهضة و»رفض أي اجراءات أحادية قد تقوم بها إثيوبيا» في هذا الشأن.
وقال الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط في مؤتمر صحافي إن القرار ينص على «رفض أي مساس بالحقوق التاريخية» لمصر في مياه النيل و»رفض أي إجراءات أحادية تقوم بها جمهورية إثيوبيا»، حسب تعبيره.
واعتبر أبو الغيط أن «القرار (العربي) يدفع نحو استئناف المفاوضات حول سد النهضة».
وكانت مصر قد طالبت الدول العربية بدعمها في أزمة سد النهضة، دون أن تحدّد طبيعة الدعم المطلوب وذلك في ظل انهيار المفاوضات وبعد انسحاب إثيوبيا وتصاعد الهجوم المتبادل بين اديس آبابا والقاهرة.
لكن الخارجية الإثيوبية أعلنت يوم الجمعة الماضي رفضها بيان جامعة الدول العربية بشأن سد النهضة، واتهمت في ردها على هذا البيان، الجامعة بأنها قدمت «دعماً أعمى لدولة عضو دون مراعاة الحقائق الرئيسية في مفاوضات سد النهضة».
فيما أعربت مصر عن رفضها جملة وتفصيلاً لبيان الخارجية الإثيوبية حول قرار مجلس جامعة الدول العربية الصادر بشأن سد النهضة الإثيوبي، وقالت إنه «افتقد للياقة والدبلوماسية، وانطوى على إهانة غير مقبولة لجامعة الدول العربية ودولها».
وقالت الخارجية المصرية في بيان إن «النهج الإثيوبي يدل على نية في ممارسة الهيمنة على نهر النيل وتنصيب نفسها كمستفيد أوحد من خيراته. وقد تجلى ذلك في إصرار إثيوبيا على ملء سد النهضة بشكل منفرد في شهر تموز 2020 دون التوصل لاتفاق مع دولتي المصب».
أما الخارجية السودانية فقد أعلنت تحفظها على «مشروع القرار الخاص بسد النهضة الذي أدرجته مصر في أعمال المجلس الوزاري العربي لعدم التشاور مع حكومة السودان بشأنه»، معتبرة أن «مشروع القرار لا يخدم روح الحوار والتفاوض الجاري بين مصر والسودان وإثيوبيا برعاية واشنطن والبنك الدولي بشأن سد النهضة».
وأضافت الخارجية السودانية فى بيانها: «ونناشد كلاً من مصر وإثيوبيا للعودة إلى المفاوضات من أجل التوصل إلى اتفاق مرضي بشأن سد النهضة، وسنبقى حريصين على إنجاح مفاوضات سد النهضة بما يصب في مصالح الدول الثلاث».
وبعد التصعيد الإثيوبي الأخير اجتمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأكد «ضرورة الاستمرار في التحلي بأعلى درجات الحيطة والحذر والاستعداد القتالي، وصولاً إلى أعلى درجات الجاهزية لتنفيذ أي مهام توكل إليهم لحماية أمن مصر القومي، وذلك في ظل التحديات الراهنة التي تمر بها المنطقة».
وفي ظل وصول المفاوضات إلى نقطة «اللاعودة»، تبدو الخيارات أمام مصر محدودة للغاية في التعامل مع الأزمة، التي تُهدد بجفاف أكثر من نصف الرقعة الزراعية الحالية في البلاد، وارتفاع نسبة الفقر والبطالة في البلاد.
يشار إلى أن رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، هدّد بأن بلاده ستحشد ملايين الجنود إذا اضطرت إلى خوض حرب بسبب النزاع مع مصر على مشروع سد النهضة الإثيوبي.
وشدّد أحمد على أن بلاده مصمّمة على إتمام مشروع السد لأنه مشروع «ممتاز»، وقال في هذا الصدد: «يقول البعض أموراً عن استخدام القوة من قبل مصر، ينبغي التأكيد على أنه ما من قوة تستطيع منع إثيوبيا من بناء سد».
ويتساءل المراقبون حول ما اذا كان اجتماع الرئيس المصري بكبار قادة القوات المسلحة يمثل رسالة تهديد مصرية بأن استخدام القوة مطروح لحماية أمن مصر القومي؟ وهل تستطيع القاهرة بالفعل اللجوء إلى الخيار العسكري في ظل وضعها الداخلي والوضع الإقليمي بشكل عام؟
وإذا كان الخيار العسكري غير ممكن حالياً، فأي خيار يمكن أن تلجأ إليه مصر سياسياً ودبلوماسياً؟ وهل تؤتي هذه المسالك أكلها في ظل تصعيد إثيوبيا من لهجتها وتأكيدها البدء في ملء خزان السد خلال أشهر، وأنه لا توجد قوة يمكنها منع إتمام بناء السد وملئه بالمياه التي تقول إثيوبيا إنها أمور تدخل في صميم سيادتها على أرضها ومياهها.
وتروّج الدبلوماسية المصرية دائماً أن المفاوضات التي تقودها الولايات المتحدة حول سد النهضة تسفر دائماً عن نتائج إيجابية، في حين تواصل السلطات الإثيوبية إجراءاتها لملء خزانات السد وهو ما يهدد حصة مصر من مياه نهر النيل الشريان الوحيد للحياة لدى المصريين.
البعض رأى في الاجتماع الأخير بين السيسي والقادة العسكريين وما خرج منه من تصريحات بحسب بيان للمتحدث باسم رئاسة الجمهورية، رسالة إلى إثيوبيا –رغم عدم ذكرها في البيان – مفادها أن خيار القوة ربما يكون مطروحاً رداً على التعنت الإثيوبي، وهو ما ردّده بعض مؤيدي الحكومة المصرية من إعلاميين وصحافيين وساسة عبر صفحاتهم وحساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن يبدو أنّ اللجوء إلى الخيار العسكري محفوف بالمخاطر، فثمة معطيات وحقائق ستؤثر بشكل كبير على أي قرار مصري يتعلق باستخدام القوة العسكرية، منها ما يتعلق بالجغرافيا والسياسة وما يتعلق بالقدرات العسكرية، وتشابك العلاقات الإقليمية والمشاكل الداخلية لدى كل من مصر وإثيوبيا.
وإذا استبعد الخيار العسكري، فإن القاهرة قد تلجأ إلى استخدام ما تبقى لديها من أوراق ضغط سياسية ودبلوماسية، لعل أبرزها – وفق خبراء ومحللين – قطع المفاوضات مع إثيوبيا والانسحاب من اتفاق المبادئ الموقع في الخرطوم عام 2015، وربما التوجه إلى مجلس الأمن والتحكيم الدولي لحسم النزاع بقرار، واللجوء إلى المنظمات الأفريقية المعنية بمثل هذه الأزمات، مثل مجلس الأمن والسلم الأفريقي والاتحاد الأفريقي.