ثقافة وفنون

مــاذا يعلّمنــا الراحلــون؟

} زياد كاج

أي عظة يلقون؟ أي حكمة يطرحون؟ أي آية يتركون؟ ونحن نبقى هنا كالظلال حزينين، شاكين من ظلم القدر وإكليل شوك الذاكرة يُدمي وعينا. الراحلون يديرون لنا ظهورهم للمرة الأخيرة، تاركين خلفهم آثاراً وومضات، لمسات، ضحكات، أحاديث السهرات، تحديات، ألماً، خيبات، وبطولات التحدّي والصبر. نعم…. نحن ـ سواء اعترفنا أم لم نعترف ـ نشعر بالذنب تجاههم لأنهم سبقونا إلى «هناك»… لأننا نعرف بأننا سنمشي على دربهم يوماً، فنتشبّث أكثر بالحياة في دواخلنا، رغم الدموع والحرد من الحياة لفترة تتولاها عجلة الزمن.

«الموت كالصابونة»، يقول بنو معروف عندنا، «يصغر مع الأيام. كثر يغفرون ويسامحون القاتل بعد زمن، فكيف يكون الأمر، عندما يكون المرض والطبيعة البشريّة؟ لا أحقاد ولا ثارات مع المرض؟ لا بغض ولا ضغينة؟ ففي زمن يكثر فيه الرحيل، يخفّ الحمل الثقيل، ويصبح قبول العبور أيسر. يقال «إن السفر نصف موت»، لذلك الموانئ عندنا كثيرة! والموت سفر كامل، يبدأ كبيراً، يصغر رويداً رويداً، فيتحوّل إلى منطقة جغرافية مخصّصة للتذكّر في عقولنا.

الموت والحياة.. وجهان لعملة واحدة يكملان بعضهما البعض. لا حياة بلا موت، والعكس صحيح. «يلي خلق علق» ـ يقول المثل الشعبي. كل إنسان حضر ويحضر وسوف يحضر إلى هذه «الفانية».. سيسكنه طوال حياته هاجس الموت. ولو بنسب متفاوتة. لذلك قيل «موتوا قبل أن تموتوا» بمعنى تفكّروا فيه كي تعرفوا قيمة الحياة، وكي تعيشوا برضا وبعطاء أفضلوتكونوا قولاً وفعلاً، أبناء الحياة.

بين الرحيل والشجر رحلة عمر. الشجر أطول عمراً من البشر، لذلك تنتشر عادة تخليد أسماء الراحلين في العديد من المجتمعات بزرع شجرة باسم الراحل. ففي حرم الجامعة الأميركية في بيروت قرب «الأسمبلي هول» يقع النصب التذكاريّ لرئيس الجامعة مالكوم كير (1931-1984) الذي اغتيل في مكتبه في ظروف سياسة صعبة. كتبت زوجته، آن كير، في كتابها «تعال معي من لبنان»، أنه كان يتسلّق أغصان شجرة البانيان الكثيرة الأغصان عندما كان صغيراً، وأنه قد حفر الأحرف الأولى من اسمه على إحداها حيث كان يحلو له التسلّق وتأمّل الشاطئ البحري من بعيد…».

عندي بين الرحيل وشجرة الصنوبر سرّ قديم منذ أيام الطفولة. فالحي الذي تفتحتُ فيه على أولى معاني وأسرار الحياة، أطلق عليه اسم «حي أو شارع الصنوبرة» (رغم التسمية الرسمية: مدام كوري). سقطت المدام في امتحان الزمن والتحولات، وبقيت الصنوبرة شامخة، صامدة، تظلل طفولتنا ومراهقتنا، نتسلّق أغصانها القوية، وهي بكل رفق وحنان، تشهد على أحداث وتغيّرات ـ بعضها حلو وبعضها مرّ ـ كأنها كانت تتحسّس معنا وتتابع دون ملل.

بين الطبيعة والإنسان سرّ وأسرار. حتى نظرتنا لها وتأملها تتبدّل وتتغيّر بتبدل أمزجتنا وحالتنا الذهنية. تبقى هي الملاذ الأخير لطالبي السلام والسكينة بعيداً عن عالم البشر. الإنسان لا يُعطي السلام الداخلي لإنسان، هذا مشروع شخصيّ وملعب اجتهاد وجهد.

ذكّرني رحيل نيبال صادق الشابة الواعدة، ابنة الشوير (التي أعشقها لكثرة شجر الصنوبر في ربوعها) برحيل عدد من أبناء شارع الصنوبرة: سميرغلاييني الذي قضي غرقاَ على شاطئ الرملة البيضاء في منتصف السبعينيات، ووليد سنكري المعوق الذي رحل حديثاً، وعماد الوزان الحكواتي البيروتي الذي رحل منذ أيام وكان مثال الصبر والقوة والرضى بما تركت له الحياة من أيام معدودات. وأيضاً برحيل أبي الباكر، الذي لطالما جلس مع شلّة الأصدقاء قرب شجرة الصنوبرة.

هل نتعلّم ونتّعظ من رحيل نيبال المبكر والمفجع، ومن رحيل سمير المراهق ووليد المعوق وعماد المريض الصابر وأبي العاشق للحياة حتى الثمالة؟

كتب الجار الحبيب والمخلص محمد الغلاييني على صفحته «الفيسبوك» شجرة الصنوبرة حزينة اليوم. وحسبي أن كل أشجار الصنوبر في الشوير كانت حزينة على رحيل الرفيقة نيبال، إلى جانب أهلها ومحبيها ورفاقها ورفيقاتها. «تشبثوا بالحياة ولا تيأسواالرحيل نصف سفرقارب يفتح أشرعته للريح.. للوصول إلى ميناء آخر في عالم آخر». صحيحٌ أنني لم أعرفها شخصياً، لكن صورة وجهها الجميل والملائكي ذكّرتني بمثل يُقال في مناسبات الفقدان: «الجمرة ما بتحرق إلا محلها».

شهدت صنوبرة حيّنا المعمّرة رحيل عدد من جيرانها وأحبائها: أبي الذي كان يلعب طاولة الزهر مع شلّته في دكان يوسف عيتاني الذي ورثه عن أبيه، ورحل بعده أعضاء بقيت الشلّة (الخواجة أوهانس رفيق أبي في عالم سباق الخيل، ثم الخواجة ماركار شقيقه، ثم يوسف وغيرهم). لكن أكثر من أبكى الحي وصنوبرته الصابرة كان رحيل الشاب سمير غلاييني بعد غرقه على شاطئ الرملة البيضاء المخيف. هذه الرمال الذهبية البيضاء لطالما ألبست أمهات رأس بيروت الثياب السوداء حداداً. دخل الحي وناسه في مرحلة حداد طويلة بعد انتشار خبر رحيله الصادم.

مؤخراً وصلني خبر رحيل الجار والصديق وليد السنكري. لم تعد أخبار الرحيل تحزنني بقدر ما تعظني وتعلمني معطوبية ولحظية الحياة. رحيله فتح في ذاكرتي صفحة تفاصيل حياة ذلك الشاب المعوّق وشبه المقعد الذي لم تفارق البسمة والضحكة وجهه الطيب. إبن بيت متواضع جداً، أبوه كان من أصول حلبية، وأمه كانت تعمل كي تعيل أولادها. بنى له أخوه كوخاً خشبياً قرب بيتهم على الطريق لبيع الدخان والمشروبات الغازية وغيرها، ميني ماركت صغير نال نجاحاً بفضل طيبة وبشاشة وجه وليد. صار الكوخ مركزاً لتجمعنا كل اليوم، حيث كان يجلس وليد على كرسيه، يبيع علب الدخان، يتسلّم البضائع من التجار، يأكل من صينية الطعام التي تجلبها أمه، يصلّي، يدخن، ويهوى التنكيت دون جرح مشاعر أحد. عاش عزه في ذلك الكوخ، حتى أصبح علامة فارقة ونقطة استراحة للمارة والأصحاب. التغيرات التي حلّت في رأس بيروت والتي شملت «حي الصنوبرة» دفعت بوليد وكوخه ـ بعد رحيل أبيه وأمه ـ إلى ضاحية عرمون، حيث أمضى بقية أيامه بعيداً عن بيروت الحبيبة.

«حكواتي بيروت» عماد الوزان كان يعرف أن أشرعة رحيله بدأت تضربها الرياح القوية. كلما التقيته في مكان عمله، فهمت أكثر أن الرجل قد تعب من المرض ولم يعد يبالي. عاند عماد قدره بروح صلبة، تستعين بالأصالة ومساعدة الآخرين دون تمييز (فهو تزوّج من فتاة بعلبكية ومنح ابنه البكر اسم علي.. فكان عن جدارة أول أبو aسكنته شخصية «أبو عبد» البيروتي، وسكنته الأعمال المسرحية، واشتغل كثيراً بالأعمال الحرفية الخشبية. مشروع فنان من أبناء حي الصنوبرة.

في السبعينيات وخلال أوقات الهدوء الأمني، كنّا كشلّة الحي نلعب كرة القدم في الملعب الترابي الذي تشمخ قربه شجرة الصنوبرة (أصبح الملعب اليوم مرأباً للسيارات، وتحول التراب الأحمر زفتاً). كان عماد الوزان المصاب بمرض الربو ضمن فريق من أبناء الحي. أنا وأخي رياض وعبد ومحمد غلاييني وربيع تابت وسمير وآخرون. الملعب كان رملياً، والمرمى كان عبارة عن حجرين كبيرين يوضعان على مسافة متساوية، حيث يقف حارس المرمى. لطالما اشتكى الجيران منا، خاصة عندما ترتطم الكرة بالكميون الحديدي، فيصاب صاحبه بحالة هستيرية، أو عندما تصيب الكرة حائط البناية المجاورة للملعب، فيعتقد السكان (خاصة آل عيتاني في الطابق الأرضي) أن القصف العشوائيّ قد بدأ. فتنهال علينا سطول المياه من الشرفات.

لا أنسى تلك الحركة التي كان يقوم بها عماد خلال المباراة بعد أن يشعر بالتعب. بسبب ضيق نفسه وضعف بنيته الجسدية، كان «حكواتي بيروت» يصاب بالتعب والإرهاق. فيمسك الكرة ويستلقي على الأرض الترابية، واضعاً الكرة تحت رأسه كأنها وسادة، ويدّعي النوم. هكذا كان عماد، شاباً مرحاً، يمزح في أوقات غير متوقعة.

أخبرني الصديق محمد غلاييني الكثير عن نوادر وخبريات «حكواتي بيروت»، «ابن الصنوبرة» الوفي، الذي وإن حمل بندقية كلاشنكوف خلال الحرب، فأنا بقيت على قناعة تامة أن الرجل لم يطلق النار يوماً على أحد. لم أقرأ أية علامة شر أو بغض على وجهه الطيب. الصديق والجار محمد كاشفني مؤخراً أن أحد الجيران الميسورين من آل الخوري كان يمنع ابنه من اللعب معنا على الملعب الترابي. خلال الاجتياح «الاسرائيلي» للبلد سنة 1982، التقيا في الملجأ والقصف يزرع المنطقة بالقذائف في الخارج. اعترف له الشاب بأنه كان يتابع بشكل يومي وبشغف كل المباريات، خاصة عندما يزورنا فريق من خارج «حي الصنوبرة»، وأنه كان يضحك من قلبه لرؤية عماد مستلقياً على التراب وسط حماوة المباراة.

«أريد أن أعرف سر لطالما حيّرني»، سأل الشاب محمد في عتمة الملجأ:

«ماذا كانت تحتوي السندويش التي كنت تلتهمها بشهية وأنت تهرول من المنزل الى الملعب؟».

«زعتر وزيت»، أجابه ضاحكاً.

رحل عماد الوزان وهو جالس على كرسيّ في غرفة جلوس بيته في منتصف الليل. بعد سهرة مع العائلة حرص خلالها على ممازحة الجميع، خاصة خالته التي كانت تعيش معه. صبغ شعرها وقصّ أظافرها وقبّلها. أوصى زوجته بالاعتناء بالأولاد. وجدته الزوجة في منتصف الليل منحنياً الى الأمام، اعتقدت أنه يمزح. هذه المرة لم يفعل.

في رسالته الأخيرة الى العالم، كتب الروائي كبرييل غارسيا ماركيز: «… لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، فسأرتدي ملابس بسيطة وأستلقي على الأرض، ليس فقط عاري الجسد، أنما أيضاً عاري الروح أيضاً….»، وهذا ما كان يفعله «حكواتي بيروت» على ملعب الصنوبرة الترابي. البقاء للأمة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى