«صندوق النقد» أداة لوضع لبنان تحت «فصل سابع» ماليّ ـ نقديّ؟
} محمد حميّة
يواصل المجتمع المالي الدولي تحميل لبنان وحكوماته مسؤولية الأزمة المالية والاقتصادية الحادة التي يواجهها بسبب السياسات التي اتبعوها في مختلف الصعد، لا سيما الفساد والمحاصصة وسوء الادارة العامة وغياب الإصلاحات والخلافات السياسية المستمرة.
وقد يكون هذا المجتمع محقاً في توصيفه للواقع. لكن ذلك لا يُعفيه من مسؤولياته في التخلف عن مساعدة لبنان عبر هبات وقروض ميسرة بفوائد منخفضة بعيداً عن الابتزاز والشروط التي تهدد التوازات السياسية والاجتماعية الداخلية.
كما أن هذا “المجتمع” الذي ينتقد السياسات الحكومية يستثني منها السياسات المصرفية والنقدية التي اتبعها البنك المركزي منذ عقود!
أمرٌ يثير التساؤلات، فهل يُخفي موافقة دوليّة على سياسات “المركزي”؟ ولماذا صمت دهراً على كل هذه السياسات المدمّرة للاقتصاد ونطق كفراً اليوم؟ ألم تكن الجهات المالية الدولية على علم بأن سياسات الاستدانة والفوائد المرتفعة والهندسات المالية وارتفاع حجم التضخم في القطاع المصرفي مقابل حجم الاقتصاد والناتج المحلي، ستؤدي الى انهيار الدولة؟ فلماذا استمرّ في إقراض لبنان وتغطية قواه السياسية المتورطة بالفساد؟ ولماذا لم يطرح صندوق النقد على الدولة إعادة جدولة الديون لتخفيف العجز في الخزينة وحماية احتياطاته النقدية والمالية، إذا كانت مصلحة لبنان تعنيه كما يدّعي؟
فالذي حصل هو العكس، فقد شنت الوكالات المالية الدولية التي تدور في فلك هذا “المجتمع” حملة تهويل على الحكومة الحالية عبر تقارير تهدّد بإفلاس لبنان وتخفيض تصنيفه الائتماني اذا امتنع عن سداد ديونه. ما يدل على ان المؤسسات المالية الدولية تولي الدائنين أهمية على مصلحة الدولة وكانت تريد توريط الدولة أكثر عبر استدراجها لسد ديون آذار لخفض احتياطات مصرف لبنان، وبالتالي وضع البلد تحت مقصلة شروط الصندوق والبنك الدولي مقابل الإنقاذ.
فالمؤسسات المالية الأممية لا تختلف في أدائها عن المؤسسات السياسية الدولية كمنظمات مجلس الامن وحقوق الانسان والمحكمة الدولية الجنائية لجهة تحكم الولايات المتحدة بمفاصلها وقرارها؛ وبالتالي كما تحاول واشنطن استخدام المنظمات السياسية لإخضاع الدول المناهضة لسياساتها كما حصل في السودان على سبيل المثال لا الحصر. تستخدم الأسلوب نفسه مع الدول التي تعاني أزمات مالية أو تلك المهددة بالإفلاس.
واللافت أكثر هو الضغوط الكبيرة التي يمارسها المجتمع الدولي على لبنان واستدراج العروض المتتالي لصندوق النقد للدخول في برنامجه، فلماذا؟
وفي هذا السياق تشير مصادر مطلعة لـ”البناء” الى أن واشنطن تعمل لوضع لبنان تحت إشرافها التام عبر صندوق النقد، فهي فشلت في وضع لبنان تحت الفصل السابع في القرار 1701 في 2006، تعمل لوضعه اليوم تحت فصل سابع مالي ونقدي عبر الخضوع لوصفات الصندوق مستغلة الأزمة المالية. فيما تكشف مصادر أخرى أن واشنطن تضغط عبر المؤسسات المالية الدولية لعقد صفقة مع لبنان على ملف الديون تقضي برهن النفط والغاز والذهب منذ الآن مقابل إعادة هيكلة الدين المنظّم وصولاً الى شطب قسم كبير منه”، إلا أن المصادر تجزم بأن الحكومة اتخذت قرارها بوقف جدولة الدين وفقاً للمصلحة الوطنية وعدم الخضوع لوصفات الصندوق إلا ما يتلاءم مع مصلحتها، وثالثاً وقف الاستدانة وعدم التنازل عن الحقوق السياديّة واستثمارها مهما كانت الأثمان، مضيفة أن الحكومة تواجه الملف بذكاء وتأنٍ وهي لم تطرح أي عروض بل تنتظر عروض الدائنين وأمامهم 3 خيارات تتعلّق بالمدة والفائدة وأصل الدين: تأجيل السداد لـ3 – 5 سنوات، حسم الفوائد مع دفع أصل الدين خلال عامين، حسم جزء من الدين مع خدمة الدين والدفع بعد عام.
ولا بدّ من الإشارة الى أن الحاكم رياض سلامة و”كارتيل المصارف” كانوا شركاء للجهات الدولية في تبادل الخدمات… فالمركزي والمصارف يخدمان في سياستهما الإفقارية للدولة وللشعب، السياسات الأميركية الدولية، مقابل تقديم المجتمع الدولي التغطية الدولية لتحالف سلامة – المصارف. ألم يعلم هذا المجتمع وسلامة والمصارف بأن سياسة الديون والهندسات المالية والفساد ستدمر الدولة؟ وأن تهريب الأموال الى الخارج وبيع المصارف سنداتها لمستثمرين أجانب سيُضعف موقع الدولة التفاوضي بمسألة الديون؟ ما يدل على أن سلامة والمصارف يتصرفان كـ”مافيا مالية” لكن المفترض أن تكون سياسة المركزي – المصارف تكاملية مع سياسة الحكومة كما في معظم دول العالم.
فقطاع المصارف لطالما تغنى بقدرته الائتمانية وملاءته المالية وامتلاكه احتياطات “لا تأكلها النيران” وبالثقة التي يتمتع بها داخلياً وخارجياً وبأدواره الاقتصادية والمالية المتعددة: إقراض الدولة وتمويل مشاريع القطاع الخاص والفوائد المرتفعة التي يقدمها لزبائنه والتي ظهر لاحقاً على أنها “خدعة” و”دس السُم في العسل” لاستقطاب رؤوس أموال اللبنانيين المقيمين والمغتربين. وما زاد الطين بلة أن المصارف استثمرت هذه الأموال في سندات البنك المركزي بفوائد أعلى.
من جهته، لطالما “تمختر” سلامة بقدرته على حماية الليرة وتثبيت سعر صرف العمل مقابل الدولار، وفجأة تلاشى كل شيء وانهار… المصارف فقدت السيولة والمركزي تبخرت احتياطاته والودائع باتت رهينة بيد سلامة – المصارف وبلغ سعر صرف الدولار معدلات قياسية. فيما المصارف تحمّل اليوم سلامة مسؤولية استعادة ديونها فيما هو عاجز عن ذلك في ظل حكومة جديدة تضغط عليه. فسقطت سياسات سلامة سقوطاً مدوياً حتى وصل الأمر بمصادر نيابية للقول إن “عصر سلامة قد انتهى وإن تمسك بعض القوى السياسية به في هذه المرحلة لتحميله مسؤولية في عملية الإنقاذ واستعادة الأموال المنهوبة والمحولة الذي يعرف وحده مكانها وكيفية تهريبها وطرق استعادتها”.
أما اليوم وبعد قرار الحكومة وقف سداد الديون وخطط اقتصادية جديدة، فإننا أمام مرحلة جديدة، أولها حماية الودائع واحتياطات “المركزي” ووقف الاستدانة المشروطة والمكلفة على الدولة ما يعني نزع ورقة الضغط من يد الخارج وهي الدعم المالي مقابل شروط سياسية ومالية.
فالهندسات المالية هي “اسم تلطيفي” اختاره سلامة لعمليات “النصب الممنهجة” للدولة والمودعين والمواطن لحساب المصارف.
فالدائنون الخارجيون والمحليون نالوا نصيبهم و”حبة مسك” فلماذا يصرّ تكتل المصارف – سلامة على رهن ودائع الناس؟ هل لمقايضتها بالديون؟ ولماذا استخدموا الطرق الاحتيالية والالتفافية وباعوا جزءاً كبيراً من سندات الدين التي يملكونها الى اجانب بهدف تهريب أموالهم واضعاف موقع الدولة في التفاوض على إعادة الهيكلة؟
فـ”أرباب” المصارف هم الذين طعنوا بسمعة وثقة القطاع وبكل لبنان وعليهم تحمل التداعيات. فلم يعد بإمكان لبنان مثلاً إصدار سندات جديدة وحتى بفائدة منخفضة جداً لأنها فقدت قيمتها في السوق العالمي، فيما المصارف المراسلة لم تعد تعترف بالكفالات المصرفيّة للتجار والمستوردين.
وبحسب معلومات “البناء” وقبل قرار الحكومة وقف السداد فإن المصارف عملت جاهدة على مقايضة الدولة بدفع جزء من سندات آذار الحالي مقابل موافقة المصارف على إعادة شراء السندات التي باعتها للاجانب، لان ذلك بحسب المصارف يوفر سيولة لها تمكنها من شراء السندات، علماً أن السندات هبطت الى أدنى مستوياتها وبإمكان المصارف شراءها بكلفة منخفضة. فمصلحة المصارف اليوم هي التعاون مع الحكومة لاتخاذ اجراءات تعيد الثقة للقطاع ومنها:
شراء السندات التي باعتها للخارج – تسهيلات تطال الودائع ما يشجع على استقطاب «الاموال الطازجة» frech money”» وهذا يفتح الباب على ثلاث إيجابيات: الحد من إقبال المواطنين على السحوبات لإيداعها في منازلهم وليس لسد الحاجات اليومية.
إعادة الأموال المودعة في المنازل خلال الشهور الماضية الى المصارف ما يعزّز سيولتها.
تشجيع المغتربين لتحويل أموالهم كمساعدات لعائلاتهم في لبنان او على شكل إيداعات في المصارف أو كاستثمار في مشاريع انتاجية اضافة الى تشجيع المستثمرين الأجانب الاستثمار في لبنان.