أخيرة

حرّيةٌ على حدود المشنقة

حنان سلامة

يحتضنون الألم بدل الوسادة، يغفون على مأساةٍ مروّعةٍ حقيقيّةٍ في رحلةٍ طويلةٍ، العودة منها غير مضمونة، ويصحون على قسوةٍ وحشيّةٍ تمارَس فيها كلّ طقوس الإذلال والإهانة. يتنفّسون مرارةً لا توصف، وعذابًا لا يُحتمل من عدوٍّ باطشٍ مستفحِل. يحملون الجراح ويسمعون أصوات السّوط فوق أجسادهم. يتذوّقون العلقم ويدفعون حرّيّتهم ثمن كرامتنا. يذودون بأجسادهم عن حمانا، يحرسون ليلنا ويصونون نهارنا. تمضي أيّامهم لتشرق شمسُنا، والثّمن الّذي ينتظرونه هو ألا تُباع القضيّة.

القضيّة لم تُنسَفهي محفورةٌ في عمق الجراحات المرسومة فوق الأجساد، ومنقوشةٌ فوق النّعوش الّتي حملناها يوم وداع الشّهداءمطبوعةٌ في وجوه الأمّهات وهنّ يودّعن فلذات أكبادهنّ. الحقّ يقال: القضيّة لا تزال مكتوبةً بالحبر الأزرق في سجلٍّ داخل درجٍ محكم الإقفال، والمؤتمن عليه سيصون الكرامة بوطنيّته، ويحفظ أعمال البطولة بشجاعته.

لن يحكم القاضي على الظّالم بالعيش الكريم. سيعلّق المشنقةَ في الميدان، وستجري عمليّة «قرعة» بين أهالي الشّهداء والأسرى المعذّبين لانتقاء الاسم الّذي سينفّذ الحكم بالمجرم. ستزغرد النّساء فرحًا بالانتقام من الجلّاد. الشّاب سيرى فوق جثّة المقتول طيف أبيه الشّهيد الّذي لم يذكر أنّه رآه يومًا. والعروس الّتي لم تملّ من انتظار حبيبها إلى أن فارق الحياة في المعتقل سيتراءى أمامها فستانها الأبيض المزركش بلآلئ الفخر والعزّ. الطّبيعة ستحتفل بمقتل «الوحش».

هذا هو الثّأر للجراح ولصيحات المقاومين والمجاهدين وأصوات عذابهم الّتي لا يزال صداها يجول داخل الزّنازين. ستنطوي صفحة الزّمن الغاضب، ويُسحق الطّاغي، وينبثق فجرٌ جديدٌ يشعل سراج الحرّيّة بوقود التّضحية. لن تخمد ألسنة اللّهب الّتي انطلقت شرارتها الأولى مع أوّل رصاصة أطلقها بطلٌ من أمّتي أقسم بدمه وشرفه ومعتقده ألّا تباع القضيّة.

للأسف. كلّ هذا لم يحصل

اليوم ذبحت الحروف وقتلت القوافي

اليوم يبست السّنابل وشُرّدت البلابل

اليوم طوى الباطل صفحة الحقّ، والعذر ليس مقبولًا.

جريمةٌ فاحشة بحقّ المقاومين، وحكمٌ أحمق أدّى الى فكّ قيد المغتصب الّذي رقص على أنغام الضّحيّة.

لا عتاب ولا شكوى في وطنٍ حطّ فيه القضاء كعصفورٍ اقتصّوا جناحيه.

اليوم نقدّم اعتذارنا، لأنّنا لم نكن على قدر الأمانة والمسؤوليّة.

نقف بخحلٍ أمام المعتقلين. نسجد فوق أرضٍ لطالما دنّسها العدوّ وتحت أحذية المجاهدين وجدت الطّهارة.

نحاول الوقوف لنستعيد قوّتنا الّتي هشّمها صمتنا المخجل. نفتّش في الوجوه العابسة عن طيف «حبيب»، وفي الأصوات الخافتة عن صوت «سناء». نبحث تحت الأقنعة عن حقيقةٍ صادقةٍ نرجوها. هل نحن مذنبون وينتظرنا عذابٌ أليم؟ هل نحن كاذبون في حزننا ومنافقون في غضبنا؟ هل فرصة الاقتصاص من الجاني لا تزال بانتظارنا؟

آن الأوان لنستيقظ على مرارة واقعنا، ونسلّم أنّنا في زمنٍ يُجرَّم فيه البريء ويبرّأ المجرم، ونقرّ أنّه ولّى زمن الانتصارات وعهد البطولة. حان الوقت لنعترف أنّ هناك مَن يستطيع أن يمحو كلّ معالم العدل والإنسانيّة. أتُجرى مراسم دفن العدالة، وأنقدّمُ الرّضوخ فوق الصّواني الذّهبيّة؟!!

كفى هذياناً. أتظنّون أنّكم ستلوون عزيمتنا؟ خسرنا جولةً ولم ننهِ حربنا بعد. أنسيتم أنّنا نملك في صفوفنا ألف حبيب وألف سناء؟

للشّهداء والأسرى ألف تحيّة وسلام.

..وإنْ هُزِمنا بين  أروقة القضاءِ الضيّقة

وإن حُرقنا بحسرةِ الأمَّهات

بينَ شرايينِ المحرقة

سننتصرُ بدماءِ شهدائِنا

فلا تبتسمْ لنيلِ حُرِّيَّتِكَ

ستكونُ الحُرِّيَّةُ

حَبلَ المِشنَقة!

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى