} زياد كاج*
محزن مشهد الفان رقم 4 في زمن «الكورونا».
على عكس عادته، يظهر في الشوارع شبه فارغ من الركاب. ذهبت أيّام العز يوم كان الفان يحمل الركاب بسرعة وبسعر معقول (1000 ليرة) بين الضاحية وقلب بيروت وصولاً إلى شارع الحمرا حتى طلعة مستشفى الجامعة الأميركية.
ماذا يعني الفان رقم 4؟ هو سكة خلاص يوميّة للفقراء ومحدودي الدخل تبدأ من أمام الجامعة اللبنانية قرب حي السلم، ثم المريجة فمنطقة صفير، ثم كنيسة مارمخايل، فالشياح – عين الرمانة، رأس النبع، فبرج المر، وصولاً الى الحمرا.. خط حياة وشريان وصال يومي بين الضاحية وبيروت. كان السائقون يحصدون الركاب الكثر على طول الطريق كما تلملم ربة البيت الغسيل قبل هبوب العاصفة.
كان ذلك قبل هبوب عاصبة وباء الكورونا.
كانت هذه الطريق – الى حد ما – عبارة عن خطوط التماس التي قسمت بيروت وضاحيتها بين «غربية» و»شرقية» خلال الحرب الأهليّة.
قبل إصدار روايتي الأخير عن مجزرة صبرا وشاتيلا في أيلول 1982، راودتني فكرة كتابة رواية عن هذا الفان، لأنني كنت أحد ركابه لسنوات طويلة، وكانت لي صولات وجولات مع السائقين والركاب، بعضها سيئ وبعضها مفيد، تخللتها مواقف مضحكة. سبقتني الى الكتابة عنه باحثة في علم الاجتماع والانثروبولوجيا، زينب فياض، إبنة بلدة أنصار الجنوبيّة. لفتني الإعلان عن حفل التوقيع، فحضرته والتقيت بالسيدة التي سبقتني في مشروع «أنسنة» ظاهرة الفان رقم 4. قلت لها ممازحاً: «هل أمّنت على حياتك؟».
توارد الخواطر بين أهل الفكر والثقافة ليس بجديد. قد تلتقي العناوين، لكن المقاربات وطرق المعالجة تفترق وتتفرّع. حصل معي الأمر نفسه في روايتي عن حرب الجبل وحصار دير القمر (للجبل عندنا خمسة فصول للكاتبة ماري القصيفي)، وأيضاً مع رواية مجزرة صبرا وشاتيلا (صدرت رواية أخرى في الأردن). أيضاً، منذ سنوات، بدأت العمل على رواية عن عملية بانك أوف أميركا التي حصلت في بداية السبعينيات، لكن صدور رواية حول الموضوع نفسه، دفعني الى الاكتفاء بالملاحظات التي جمعتها.
بالعودة إلى الفان رقم 4، أعترف أنني تردّدت كثيراً قبل استخدامه. منعني الخجل وقلة الخبرة والصورة النمطيّة المسبقة عنه، رغم أنه يمرّ قرب مكان سكني في منطقة المريجة. مللي من القيادة، خاصة خلال زحمة السير الخانقة في طريق العودة، دفعني الى خوض التجربة، ومع الوقت تعلّمت من أخطائي وتجاربي: فلعالم الفان 4 أدبيّات وسلوكيّات خاصة، مثل طريقة الصعود والنزول، تأمين «الفراطة» للسائق الذي يكون في حالة عصبية معظم الأوقات، ضرورة انتقاء الفان المزود بنمرة حمراء، بإمكانك عدم الصعود الى الفان ولو نادى لك، لا تنظر نحوه مباشرة، فقط ركّز نظرك على الفان التالي… وما أكثرهم. معظم سائقو الفانات لا بأس بهم. ليسوا «زعران» كما يُحكى عنهم. ظروفهم المادية والاجتماعية ورّطتهم في هذه المهنة الشاقة. عندما تستقلّ الفان كل يوم، تعتاد على مزاج السائق والركاب. تتفهّم أوضاعهم. رحلة الصباح عادة تكون هادئة. لا كلام ولا سلام. الركاب لا يزالون بين اليقظة والنعاس في السادسة صباحاً، والسائق يقود بنشاط، يشرب القهوة من فنجانه البلاستيكي، يسبّح بسبّحته المثبتة الى باب السائق. رحلة المساء أصعب: الركاب يتحدثون ويُفرّغون تجارب نهارهم، والسائق يكون في حالة عصبية بسبب التعب والمنافسة الشديدة بين السائقين على الخط «الحامي» زمن الحرب والسلم معاً!
دخلت مراراً في مشاكل مع بعض السائقين. ليس من موقعي كراكب، بل خلال قيادتي لسيارتي الخاصة. أحياناً لم أكن أستوعب طريقة وأسلوب قيادة بعضهم بطريقة عشوائية لا تراعي قانون السير ولا سلامة المارة. كنتُ أصاب بحالة عصبية، «فأكسر» على الفان بسيارتي، ومراراً، كنت أنزل صارخاً شاتماً. حالفني الحظ ولم تمدّ اليد عليّ. ربما حمتني شيبتي وتقدّمي في السن. يعرف سائق الفان أنه ينتهك القانون خلال الزحام.. لكن لقمة العيش مرّة.
أرتحت أكثر للفان الكبير الحجم من الصغير. مقاعده مريحة، والسائق يقود ببطء وحرص، ويضطر الى التوقف مراراً لكثرة ركابه. عادة، لا يستخدم المستعجل هذا الفان. صرتُ أستخدمه صباحاً بعد أن تعرّفت إلى سائق خفيف الظل من آل زعيتر. كنا نمضي المشوار في حالة ضحك متواصلة على نكات وتعليقات صديقنا السائق الذي كان يفضل الزبونات الشابات على المتقدّمات في السن– حسب تعبيره. لم أصدّقه الى أن رأيته يفعلها في صباح ماطر مع سيدة مسنة! معه وفي فانه الكبير تعلّمت الاستماع – ولو مجبراً – لدعاء الصباح للإمام علي. صرتُ كل يوم أستمع للكلمات الجميلة وبصوت هادئ حتى تعوّدت أذني عليها فدخلت في قاموسي الخاص (رغم أنني من مدمني صوت فيروز صباحاً).
«بتحب تشوف أوباما»، سألني السائق مرة وهو ينظر نحوي بواسطة المرآة أمامه. كنت أتعمّد الجلوس في الخلف قرب الشباك.
«معقول… أوباما؟؟»، كنت أعرف أنه يُخفي أمراً ما.
«هلق بتشوفوا.. لح طلّعو معي».
بعد دقائق، تجاوزنا تقاطع كنيسة مار مخايل، توقف الفان وصعد شاب سودانيّ وهو يبتسم ابتسامة بيضاء عريضة لصديقه إبن زعيتر.
«قلتلك أوباما…»، نظر نحوي ضاحكاً.
شهدت داخل عالم الفان رقم 4 الكثير من المواقف الصعبة والمؤسفة. المشاكل كانت كثيرة بين السائقين، تصل أحياناً الى التضارب والتعدّي على السائق الضعيف وغير المدعوم، أو بالتعدّي على الفان (عدد لا بأس به كانت واجهاتها الأمامية تحمل آثار ضربات شوّهت الهيكل وكسرت الزجاج). في أحد الأيام، كنت جالساً على المقعد الخافي والفان «مفّول». زحمة سير خانقة وفوضى عارمة. السائق المعمر أرتطم خطاً بالفان أمامه. فنزل سائقه وراح ينهال على «سائقنا» بالضرب والسباب دون توقف. ما صدمني أن الركاب بقوا صامتين ولم يحاول أحد الدفاع عن الرجل المسكين!!!
باب الفان مشكلة بحد ذاته للركاب وللسائق. فهو أكثر جزء يتحرّك في الفان، بعد المقود والعجلات، ويليه بعض المقاعد التي تطوى لإفساح المجال. معظم الأوقات ينزل الركاب ويتركونه مشرعاً. هو باب جرار ويُحدث ضجيجاً. يقلع السائق بسرعة ثم يفرمل، فيغلق الباب بتلقاء نفسه. أحياناً ينخلع الباب ويخرج عن سكته، فيتوقف السائق وينزل بنفسه لإعادة تثبيته.
هذا الباب تسبب بإشكال بين امرأة وسائق وصلت مفاعيله الى موقف حي السلم. كانت المرأة المرتدية للتشادور تهم بالنزول من الفان، فأقلع السائق فجأة بسبب المنافسة مع فان آخر، مما أدّى الى وقوعها على الأرض. أكمل السائق طريقه دون اكتراث. صعدت المرأة الى فان آخر وطلبت منه ملاحقة الفان الذي نزلت منه. وما أن وصل على مقربة منه، أخرجت رأسها من الشباك وراحت تهدّد السائق الأرعن وهي تصرخ: «لاقيني عالموقف إذا كنت رجّال». قيل يومها إنه «أكل نصيبه»، لأن المرأة تعرّفت عليه وكانت مدعومة.
يعتبر الفان رقم 4 وسيلة نقل آمنة (رغم كل ما قيل ويُقال عنه). طريقه معروفة، والسائقون أيضاً يعرفون بعضهم. وبسبب كثرة الركاب، يحرص السائق على عدم حصول حوادث تحرّش في فانه. فمعظم الركاب هم من طلاب وطالبات الجامعات والمعاهد في بيروت. يحدث تعارف في الفان، أحياناً رومانسيات. أحد السائقين الشباب كان يفرفح وينسى تعبه عندما تصعد شابة بمكياج كامل وعطر ينسيه تعب النهار. تجلس قربه، فيُسمعنا موسيقى وأغاني عاطفية من العيار الشعبي. ينظر نحوها جانباً أكثر من التركيز على الطريق والسيارات أمامه. لا هم إن خسر زبوناً أو أكثر.
أصبح الفان ظاهرة اقتصادية – اجتماعية يستحيل الاستغناء عنها. أصبح السائقون أكثر عقلانيّة، ما عدا أصحاب النمر البيضاء الذين يعملون فقط داخل الضاحية ولا يصلون الى مستديرة الطيونة.
توقفت منذ فترة طويلة عن استخدام الفان 4، لكنني أحنّ اليه أحياناً. حين أتعب من القيادة بين الضاحية وبيروت، ألجأ اليه، فيوصلني بألف ليرة الى أقرب منطقة من مكان عملي. الجلوس في الخلف، والشرود في عالم الصباح، في الأبنية والناس وهي تستقبل أول طلات الصباح، الهواء المنعش حين يُسرع السائق بين الطيونة وميدان سباق الخيل.. كل أمور ممتعة صباحاً يفتقدها كل من يجلس خلف مقود. قد يستغرب الناس ظاهرة «الأمانة» المنتشرة وسط معظم السائقين. يحدث مراراً أن ينسى الركاب أغراضاً خاصة على المقاعد (مثل الهواتف الخلويّة)، فيستردّونها في اليوم التالي.
سبقتني الصديقة زينب في «أنسنة» هذا الفان وعالمه المجهول للذين لا يعرفونه. حسناً فعلت في محاولتها لكسر سوء التفاهم بين السائقين للفانات والسائقين الآخرين.. وهو جزء من سوء تفاهم.. بل عدم فهم عالم الضاحية وعالم بيروت… أمثالي وأمثال زينب يعرفون أن الناس سواء وإن اختلفت ظروف وشروط وطرق عيشهم.
زمن «الكورونا» الرهيب الذي نعبره اليوم، قصم ظهورنا، وقصم ظهر سائقي الفانات.. قل عدد الركاب الخائفين كثيراً… كنت أراهم في الشوارع، يقودون بطريقة فوضوية، لكنهم كانوا سعداء…. فالفان كسّيب، خاصة إذا كان سائقه يمتلكه ولا يعمل أجيراً. صحيح أن الراكب بالنسبة لهم كان يعني ألف ليرة، والنقلة بين الضاحية وبيروت كانت تعني 15 ألفاً ذهاباً، و15 ألفاً أياباً.. اليوم تغيّر الوضع.. مشهد الفان يتحرّك ببطء وفيه راكب أو راكبان… يعني أن المعاناة قد بدأت، وأن أفواهاً ستجوع… حالة التعبئة العامة المعلنة فرضت توقف هذا الشريان الحيوي بين الضاحية وبيروت… يحاول البعض المغامرة… لكن دوريات قوى الأمن توقفهم بعد ميدان سباق الخيل.. ترى بعض الفانات مركونة الى جانب الطريق، أبواب السائقين مشرعة، وهم يتجادلون مع رجال الدرك.. يبقى أن سائقي السيارات العمومية يستفيدون من هذه الحالة، فبين الوسيلتين منافسة وأكثر.
قديماً، سارت نكتة في حي السلم (سُمّي حي الكرامة خلال الحرب الأهلية) — حيث يعيش معظم السائقين — أن أمّ العروس كانت تسأل من يتقدّم لطلب يد أبنتها: «عندك فان؟».
*كاتب لبناني.