انتخابات الكيان وكيّ الوعي
منير منصور*
منذ اغتصابه أرض فلسطين، دأب الكيان بمؤسساته الأمنية وغيرها، على اتباع سياسة الترغيب والترهيب، ضد أبناء شعبنا الباقين على أرضهم، في محاولة منه للنيل من عزيمتهم، وترويضهم حتى يخضعوا لقبول واقع الاحتلال..
عيّن بداية، المخاتير في القرى العربية، مع إعطائهم بعض النفوذ، للظهور بمظهر القادر على حل الإشكالات الحياتية اليومية التي واجهت الانسان الفلسطيني. على سبيل المثال وليس الحصر، الحصول على تصريح عمل، أو السماح له بزيارة قريب له يسكن في مكان آخر من الوطن. وبالمقابل قامت السلطة بضرب الحركة الوطنية بقسوة وعنف، واتخذت إجراءات تعسفية بحق كل من انخرط او ارتبط بأي نشاط معادٍ للاحتلال، متخذاً ضده كل الإجراءات، كالإبعاد، والحبس المنزلي، والاعتقال الإداري، وسحب الهوية، ومنعه من العمل. وقد رافق كل هذا ضخٌ إعلاميٌ مكثف، لترويج سياسة الإحباط والتيئيس، وزرع البلبلة وعدم الثقة بين الناس من خلال بثّ الأكاذيب والشائعات حول الشخصيات الوطنية لحصارهم داخل مجتمعهم… والتضييق عليهم، ودأبت المؤسسة الصهيونية الحاكمة على تغيير المنهاج الدراسي الفلسطيني، بمنهاج يخدم الفكرة الصهيونية ويروّج لها..
وقد أشرفت الجهات الأمنية التابعة للكيان على إدارة شؤون العرب الفلسطينيين، فتم تعيين المدرسين والموظفين بالأماكن المختلفة بناء على توصية من تلك الأجهزة…
استمرّ هذا الوضع حتى عام 1967, حيث تمّ إنهاء الحكم العسكري الميداني ونقل مسؤولية إدارة الوضع العربي الى جهاز المخابرات العامة.
ومن نافل القول إن ثمة مقاومة انطلقت بالداخل الفلسطيني ضد هذه السياسة، معتمدة أساساً على النضال السلبي، فيما ذهبت مجموعات أخرى الى تبنّي الكفاح المسلح الذي بقي محدوداً.
والجدير بالذكر أنه حتى تلك الفترة، نشط الحزب الشيوعي الإسرائيلي بأوساط العرب، حيث انفرد بهذا النشاط لكونه مرخصاً من السلطة، ولكونه حزباً عربياً يهودياً يدعو الى التعايش مع إعطاء بعض الحقوق اليومية للعرب، وفي مطلع سبعينيات القرن الماضي ومع اتساع رقعة المقاومة الفلسطينية، وتسلّلها الى الداخل الفلسطيني، تكوّنت تيارات قومية عربيه تتماهى مع المقاومة وتتفاعل معها، فيما انخرط كثيرون بالكفاح المسلّح، وسرعان ما تمّ قمع هذه المجموعات الصغيرة، فتم اعتقال الكثير منهم واستشهد آخرون كثر أيضاً.
وشهدت تلك الفترة نضوجاً وطنياً عارماً، مما شكل قلقاً عميقاً لدى الكيان، الذي عاد الى أساليب القمع والتنكيل، فيما سمح للحزب الشيوعي الاسرائيلي، الذي يؤمن بالعمل البرلماني من العمل والاتساع داخل المحيط العربي، تحت غطاء الديمقراطية المزيفة التي يدّعيها، ومع مرور الوقت، أصبح ما يُسمّى بالعمل السياسي البرلماني طاغياً ومتداولاً، حيث تم الترويج لهذه السياسة، وعليه أصبح الكثيرون يعتقدون بإمكانية تحصيل بعض الفتات من المحتل من خلال هذا المفهوم، وقد انضمت بعض القوى الأخرى لهذا النهج ودخلت أيضاً المعترك الانتخابي الصهيوني.
وأصبح الهدف لهذه القوى الدخول في البرلمان الصهيوني، بادعاء الحفاظ على الهوية العربية وتحصيل بعض الحقوق الحياتية، المكفولة أصلاً بالقانون الدولي، هذا الأمر أدّى بالنهاية الى التوغل بالأسرلة والانسلاخ تدريجياً عن الهوية الفلسطينية، على اعتبار أن هذا البرلمان صهيونيّ، ويسنّ قوانين عنصرية واستحالة التأثير عليها من خلال العمل من داخلها. وهكذا بقي النواب العرب على هامش العمل السياسي، وفي أحسن الحالات تحولوا الى بديل لذلك المختار سالف الذكر.
يروّجون للبرلمان مدّعين مصداقية العمل من خلاله، متجاهلين تأثيره على وعي الناس وسلوكهم السياسي. واليوم نرى تناغماً واضحاً بين أصحاب هذا الخيار ومع سياسة السلطة الفلسطينية التي تتبنى نهجاً مشابهاً بكل ما يتّصل بالاحتلال.
ولعل هذا أدّى الى تراجع كبير في الحركة الوطنية الجذرية، وعندما نشاهد اليوم هؤلاء النواب يقسمون الولاء للدولة وقوانينها، ويقومون بالتوصية على الجنرال جانتس لتشكيل الحكومة، مصحوبين بالنشوة والاعتزاز، حينها فقط ندرك إلى أي مدى من الأسرلة والانخراط بالمجتمع الصهيوني وصل هذا البعض، على الرغم من رفض ذلك المجتمع لهؤلاء، وفي كل الأحوال يستفيد الكيان كثيراً من وجود بعض العرب بالبرلمان لإظهار ديمقراطيته وإنسانيته المزعومتين.
وبالرغم من كل التآمر على الحركة الوطنية التحرّرية في الداخل المحتل، إلا أنها لن تتراجع قيد أنملة عن التصدّي لمشروع أسرلة جماهير الداخل المحتل بمواصلة رفض الاعتراف بشرعية الكيان، وهي بأمس الحاجة الى المساندة المعنوية من كل أحرار الأمة والعالم كله .
*رئيس رابطة الأسرى والجرحى في الوطن المحتل 48.