الحبّ في زمن الرأسماليّة المتوحّشة «لا تشرب الرحيق إلا بجماجم الموتى»
} آمنة بدر الدين الحلبي
ودّعت الشمس البحر بقبلتها المعهودة، وأخذ الليل يزحف ليرخي سدوله على الكون إيذاناً ببدء حياكة ثوب السماء المرصّع بالنجوم، ونسج القمر نوره من بقايا أغصان الشمس الذهبية.
إنها لحظات موقوتة، بل دقائق فاصلة يلاحقها بصري ويحملني من مكان إلى آخر في هذا العالم الكبير، حيث سادت السكينة على الطبيعة قسراً هذه المرة، بعد أن حضنت الأغصان أزهارها، وأغمضت عينيها، واستسلمت لكينونة الحب والمحبة.
عدا الطيور التي وصلت إلى مرفئها بين ثنايا القضبان لتمارس عشقها الأبدي، تاركة ساحات الكون الجميلة إلى صمتها المقيت وعطرها القاتل التي شكلته أيادي الرأسمالية المتوحشة، لأنها بعيدة كل البعد عن الإحساس بالمشاعر الإنسانية «لا تشرب الرحيق إلا بجماجم الموتى»، حسب مقولة كارل ماركس من خلال شركات العطارة الفاسدة التي تزكم الأنوف برائحتها، وتصيب القلوب في مقتل، واضعة نصب عينيها أن تتخلص من ثلاثة أرباع العالم بدفنهم تحت الثرى ليصبح القرن العشرين ملاذها الوحيد، كي تسيطر على ثرواته العطرية، تبيع وتشتري بما تبقى من أناس على سطح البصيرة.
لم تدرك تلك الشركات أن طباخ السمِّ يجب أن يتذوق طعمه ولو قليلاً، ويتعطر برائحته التي عبقت في الزمان والمكان وامتدت إلى كل بقعة من بقاع العالم إلا من رحم ربي. لأن هذا العطر خلال شهرين لامس وجوه الآلاف المؤلفة من بلادهم، واستوطن في رئتيها المكان المناسب للرحيل، وانتاب العالم هلع كبير مما يحصل على سطح الكرة الأرضية، وسارع أطباء العالم قاطبة لإيجاد علاج ناجع لذاك الطاعون العطري والذي يُدعى كورونا «كوفيد-19» واستدعى الأمر لفرض قانون طوارئ في أغلب بلاد العالم للحدّ من انتشاره وسرق معه اقتصاديات العالم ودمّرها، وفرض على البشر قاطبة الحجر المنزلي.
بعدما ضاقت أنفاس الليل بما رحبت في تلك الليلة سرحتُ بمفردي تحت أشجار النخيل معانقة الأرض ومتحدة بها كجسدٍ واحد، أسأل نفسي ما الذي جرى لهذا العالم حتى خلا من الناس معطية لروحي حريتها المطلقة تسبح في بحر الفضاء الزاخر مع الله عله يرحمنا من طاعون مخفيّ صنعته يد الإنسان القاتل ولم نستطع دفعاً له، غير أخذ الإجراءات الاحترازية من التعقيم الكثيف والآلي، مع تحول عصيرنا إلى فيتامين C.
كان كل شيء يدور بصمت لانعتاق الروح من الجسد، وكل ما يدور حولي يجري بصمت مقيت وغياب عن الواقع، بالرغم من وضوح الأشياء دون الحاجة إلى أسئلة تدور في محرق الحياة المذهلة.
وبحركة لا إراديّة سيطر على مسامعي حفيف يقطع حبل التأمل، فانتصبت واقفة وسألت نفسي عن إحساس هزَّ مشاعري؟ هل هو وهمٌ أم حقيقة؟
أجابني القمر بنوره الساطع التي تسلّل من بين همس الطلول يلامس وجنتي أميرة الليل، ذات طلعة بهية، مرتدية أجمل الحلل ومتربّعة تحت شجرة من الأشجار الوارفة لا تحرك ساكناً لكن زفرات أنفاسها معجونة بالألم.
شدّني فضولٌ غريب لأؤنس وحدتها تحت جنح الليل، علني أدخل البهجة إلى قلبها وأكتشف مكنوناته، وأعيد البسمة إلى شفتيها الورديتين، وامتدت يدي باللاشعور ومسحت دمعها، فشعرت للحظة أن ثلوج العالم لا تطفئ النار المتأججة في صدرها.
استدارت نحوي بوجهها وأومأت بالسلام.
قلت: أميرة الليل بمفردها.
قالت: عطر كورونا تغلغل في جسد حبيبي بلمح البرق، دون أن أدري، وكأن العالم أصبح بلا شعور ولا إحساس، وما من دواء يشفيه وهو ينازع سكرات الموت معزولاً في المشفى.
قلت: اعتراني وجع إنساني، وألم في روحي؟
قالت: جفّت مشاعر العالم المتوحش، ويبست أحاسيسه، وماتت ضمائره، من أجل السيطرة على العالم، فأرسل لنا عدو مجهول يفتك بنا، عالم جشع مستهتر بالإنسانية جمعاء.
قلت: ربما يتعافى حبيبك وتعودي للقائه في هذا العالم لأن «الجنة بلا ناس لا تُداس»، حسب المثل العامي.
قالت: لا أذكر شيئاً، لأنني نسيت اسمي في هذا العالم البغيض والذي يعجُّ بالحقد الدفين، والكِبَر، وحب السيطرة على مقدراتنا، أهدانا عطراً قاتلاً، لأنه لا يعرف ماهية الحب ولا يجيد العزف عليه، لذلك أحاول نسيان كل شيء من حولي.
صمتت بذهول فأفقتها بهز أوراق الشجر.
قلت: هي عطور الجيل الخامس.
قالت: إن كانت عطور الجيل الخامس كما تقولين، كان بقي حبيبي يتغزّل بعطري الفواح الذي يغطي الكون في هذه الأيام.
قلت: ما هو عطرك يا أميرة الليل؟
قالت: عطري لا مثيل له في كل بقاع العالم، حين تتفتح بتلاته الخمس تضج الدنيا فرحاً، وتبهج العشاق، ويتسابق كل حبيب لإهداء حبيبته رزمة منه.
قلت: أفصحي أكثر.
قالت: الياسمين عطري والحنطة قوتي والحب ديني، هذا ما بقي في ذاكرتي بهذا الزمن الرديء.
ذُهلتُ من جوابها وصمتت، لكنها قطعت حبل الصمت عندي.
قالت: ضعت بين حدائق النسيان في هذا العالم بسبب المجاعة الروحية، حتى أحاط بي كهالة غريبة وغلّفَ حياتي، وما بقي إلا نبرات صوته مستوطنة على جسد ذاكرتي، وحبه الكبير يجول في روحي.
قال: أنت أيقونتي التي أزيّن بها حياتي، ولن أرضى عنها بديلاً، وحبي الأبدي.
قالت: أدخلت روحي في قمم حبك.
قال: لأنني أغلقت نوافذ العشق كلها من أجلك سيدتي، وبنيت سوراً من ياسمين لأجلك.
قالت: أعتقت نساءك كاملة، بعد أن حرّكت مكامن الشوق في روحي.
قال: وجودك بقربي يجعلني أقيم صلاة الحب في حضرتك من دلوِّ الشمس إلى غسق الليل.
صمتت وصمت العالم من حولها وكأنها دخلت في غيبوبة أفاقت منها على صوت جوالها علّ وعسى تسمع خبراً جيداً عن حبيبها.
قالت: عندما يغادرني الحنين، أبقى وحدي، يشتعل نبضي بالصقيع، ويغلي بالبرودة، وصوت الأيام تنتزع من ذاكرتي أحلامي الجميلة، وتحفر فيها أخاديد من الحزن والرعب، وما من أحد يساعدني لاجتياز هذه المخاوف، بل يدفعونني لحتفي في المقابر نتيجة الحجر الانفرادي، لأنني رافقت حبيبي إلى المشفى.
قلت: الحجر احترازيّ حتى لا يصل هذا العطر إلينا دون أن ندري، فلا تخافي.
قالت: وكيف لا أخاف وأنا أعيش في عالم مقنع بأقنعة غريبة الأشكال والألوان، عالم يلبس كل الأثواب الجميلة ويخفي عيوبه وراء قناع فرضته علينا الرأسمالية المتوحشة التي يحركها المال ولا شيء غيره، ولا يعترف بالحب والمحبة، بعد أن قتل الإنسانية على مذابح السلطة والزيت المسفوح في حلقه.
قلت: حاولي يا أميرة الليل أن تعودي إلى عالمك بالحب والمحبة لأن حبيبك قريباً سيتماثل للشفاء، ويؤنس وحدتك، ويطفئ نار قلبك.
قالت: حبٌ في زمن الرأسمالية المتوحشة؟ وأي حب تتكلمين عنه يا صديقتي؟ والعالم يتهم بعضه البعض عن هذا العطر القاتل، ومَن هو المسؤول عن تصنيعه، لقد توقف الزمن في صباح العالم ككل.
قلت: لكنه عالم غريب تحركه الثلاثية الشهيرة شهوة السلطة وشهوة والمال وشهوة الجنس ويمكن تصنيفها حرب العطر الخامس، لأنه أقلّ كلفة، وأسهل انتشاراً، وأشد تدميراً.
قالت: هذا العطر سوف ينتهك الحياة الإنسانية ويكشف أكبر جريمة في التاريخ الإنساني.
قلت: هذه أولويات شركات العطر العالمية لإبقاء أركان العالم مستعرة، وتبقى هي المتفرج الوحيد بأقل الخسائر.
قالت: لذلك أنشدت الليل علّه يخفف من جراحي.
قلت: ها هو لسان الصباح يمتد ليوقف الكلام المباح يا أميرة الليل.